رياض الفرطوسي
لم يكن الشرق يوماً سهلًا على من يحكمه؛ تلك حقيقةٌ يعرفها الحجر قبل البشر، وتركيا مثالها الصارخ. هناك، في الأرض التي يجلس فيها الجبل إلى جوار البحر كأنهما شريكان في سرّ قديم، نبتت إمبراطوريةٌ لا تزال ظلّها ممدوداً على نصف العالم. كانت سلطتهم مزيجاً من السيف والمسبحة، من الغضب والترف، من سلطانٍ يستيقظ على فكرةٍ جديدة قد تغيّر مصير ملايين. يتقلّبون كما تتقلّب الريح بين ضفاف البوسفور.
وحين جاء الانطفاء الأكبر، لم يسقط العثمانيون دفعةً واحدة؛ كانوا كبيتٍ عتيق يُسمع تكسّر عظامه قبل أن ينهار. وقف مصطفى كمال أمام الركام، نزع عباءة الماضي بقسوة الجراح الذي لا يملك وقتاً للرحمة، وأعطى لتركيا وجهًا لا يشبه دفاترها القديمة. اختفت لغةٌ، تنفّست أخرى، وتحوّلت الجمهورية الناشئة إلى مشروعٍ يريد اقتلاع جذورها الشرقية لصالح هواءٍ أوروبي بارد، كأنها تحاول أن تُنقّي نفسها من تاريخها بعملية جراحية بلا تخدير.
لكن الروح لا تُعاد صياغتها بالمراسيم، والذاكرة لا تُرَبّى كالحمام. حاولت تركيا أن تقفز من شرقها إلى غربٍ لا يرحّب بسهولة، فوجدت نفسها معلّقة بينهما مثل جسرٍ تهزّه أول عاصفة.
ثم ظهر رجب طيب أردوغان، الرجل الذي يجيد تغيير جلده كما تغيّر إسطنبول لون بحرها. مرةً يغازل الغرب بابتسامةٍ محسوبة، ومرةً يستدعي أشباح الماضي العثماني ليُرضي بها جمهوره حين يشعر أن الأرض تتحرّك تحت قدميه. تركيا في زمنه تبدو كمن يجرّ خريطةً كاملة خلفه: حلف أطلسي يريدها في خط مستقيم، وجيرانٌ غاضبون يدفعونها إلى التأهّب، وشرقٌ متوسطيّ يغلي، وأحلامٌ قديمة بأن يكون لها دورٌ أكبر مما يسمح به الآخرون.
وعلاقاتها مع إسرائيل… آه، تلك حكاية وحدها. يوماً تهزّ تركيا قبضتها في وجههم، وغداً تفتح باب الصفقات. كأنها تلعب شدّ الحبل مع نفسها، وفي كل مرة تخسر شيئاً من صوتها أو شكلها.
لطالما قلتُ —وأنا الذي زرت تركيا مراراً وجلتُ بين مدنها من البحر الأسود إلى إيجة— إن هذا البلد يعيش فوق جغرافيا تشتهي المشاكل. جمالٌ ساحر، مناخٌ يغري بالسكن، لكنه جمالٌ مُكلَّل بالندوب: توتّرٌ كردي لا يهدأ، خلافات لا تموت مع اليونان وقبرص، وملفاتٌ لا تزال تبكي في البلقان. كلما أغلقوا باباً، فُتح آخر في الحدود أو البحار أو التحالفات.
أما الشعب التركي، فهو خليطٌ من بساطة واندفاع. العامة يبحثون عمّا يملأ مائدتهم ويؤمّن رواتبهم، والمثقفون الحقيقيون —أولئك الذين يوسّعون الرؤية بدل أن يضيّقوها— كثيرٌ منهم في السجون، أو في المنافي، أو في صراعٍ دائم مع محاكم لا تحبّ الكلام العالي.
خذ الكاتبة أليف شافاك مثالًا… خرجت من محاكمة عام 2006 بسبب “لقيطة إسطنبول”، فقط لأنها لامست جرح الإبادة الأرمنية. ثم أعادوها إلى المحكمة عام 2009، فاضطرّت إلى أن تتنقّل بحراسةٍ شخصية قبل أن ترحل إلى بريطانيا. ومع ذلك، لم تغلق فمها. كتبت “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب”، فعادوا لاتهامها بـ”إهانة الهوية”، التهمة الجاهزة لكل من يقترب من المناطق المحرمة.
هي، مثل أورهان باموق ونديم غورسيل، تعرف أن الأدب حين يصدق يصبح خطيئةً في عيون السلطة. روايتها الجديدة تفتح تابوت امرأة تقف على حافة المجتمع، تُرمى جثتها في صندوق نفايات، وبين دقيقتها العشر وثمانٍ وثلاثين ثانية من الاحتضار تسترجع حياتها كأنها شريطٌ متكسّر، وتطرح سؤالها المتأخر:
كيف وصلتُ إلى هنا؟
سؤالٌ يسمعه كثيرون بعد فوات الأوان… سؤالٌ يُقال من داخل علبة قمامة لا من صالونٍ أنيق.
في تلك الثواني الضيقة توسّع أليف اللحظة حتى تصبح حياة كاملة، وتركيا كاملة، ومن يعيشون على الحافات الكثيرة لهذا البلد الذي لم يتصالح مع نفسه بعد. تكشف قسوة النظام الأبوي، وتعيدنا إلى تلك الجملة التي نخاف قولها:
إن الحكاية كلها تبدأ حين نقول الحقيقة، وتنتهي حين نخاف منها.
ومهما تغيّر الزمن وتبدّلت الحكومات، تبقى تركيا واقفة بين صورتين: ماضٍ يرفض الموت، وحاضرٍ يتلوّن كل يوم. بلدٌ بقدمٍ في الماء وقدمٍ في اليابسة، وفي عينيه بريقٌ يبحث عمّن يلتقطه.