المثقف بين الخذلان والواجب

رياض الفرطوسي

في عالمٍ مثقل بالصراعات والألم، يمكن أن يكون صوت المثقف العضوي بمثابة المصباح الذي يضيء الطريق، ويحرر العقول من ركام الجمود واللامبالاة. كان يمكن للمشهد الثقافي العراقي أن يكون صاخباً بالحقيقة، مدججاً بالأسئلة، مُحمَّلًا بالوزن الجميل الذي يتركه المثقف حين يعبر في الناس مثل برقٍ يوقظ، لا مثل غيمةٍ تمرّ ولا تمطر. لكن الواقع يقول شيئاً آخر: انطفاء صامت، أشبه بانسحاب الضوء من غرفة ظلّ فيها الباب مفتوحاً… ومع ذلك، لم يدخل أحد.

المثقف العضوي لم يكن يوماً «خطيب محافل» ولا «نجم شاشة». في جوهره، هو ضمير يعمل تحت الجلد، يرى ما لا يُقال، ويُصرّ على قول ما يُرى. لكنه اليوم، في بلاد أنهكتها الردهات السياسية، تحوّل شيئاً فشيئاً إلى ظل لنفسه. ليس لأنه توقف عن الحلم — فالأحلام لا تشيخ — بل لأن الضجيج أصبح أعلى من أي نداء، والسطح أرحب من العمق، والظهور أهم من الحقيقة.

ريجيس ديبريه، الفيلسوف الفرنسي، تحدث عن «أفول المثقف العضوي»، وكيف أغرى الإعلام العقول التي كانت مشغولة بانتشال المجتمعات من سباتها الثقيل. في العراق، لا يقتصر الأمر على إغراء الشاشات، بل هو منظومة كاملة دفعت بالمثقف من خانة التأثير إلى هامش التزيين. صار البعض يكتفي بمراقبة الخراب من مقعد وثير، يعلّق عليه كما لو كان مباراة كرة قدم، بينما تُدار البلاد بمنطق الصفقات، لا الأفكار، وبحسابات اللحظة، لا قيم التجربة.

المثقف العضوي، كما وصفه غرامشي، هو ذلك الفرد الذي يربط بين الأفكار والممارسة، بين السياسة والشارع، بين الضمير والمصلحة العامة. هو حيادي بطبعه، لا يُحدده مزاج اللحظة، ولا يخضع لضغوط السوق الإعلامي، بل يلتزم بالحقائق والمبادئ، ويستطيع إحداث تأثير حقيقي في مجتمعه. في بلدان تحترم حرية الفكر، يكون المثقف العضوي حجر الأساس لبناء الوعي والمشاركة، بينما في العراق يبدو الحياد حلماً بعيداً، إذ يُجبر الكثيرون على الانحياز للمصالح أو التكيف مع الواقع الهش كي لا يختفوا من المشهد. حتى مصطلح «المثقف العضوي» أصبح يُفهم غالباً على أنه صفة أوروبية، منقولة من بيئة تاريخية مختلفة، أكثر قدرة على حماية الضمير والحرية الفكرية.

ثلاثة جدران تحاصر المثقف اليوم:

جدار السياسة، التي لم تعد ترغب في شريك ينتقد، بل في مُصفّق يحسن اختيار التوقيت.

جدار المجتمع، الذي أرهقه الانتظار حتى فقد شهيته للأسئلة الطويلة والمعمقة.

جدار المثقف نفسه، حين خسر قدرته على المجازفة، وفضل الأمان الرمزي على وظيفة «الحارس» التي طالما عرّفته.

هكذا، تحوّل دور المثقف من صانع مسار إلى مُعلّق على مسار، من محرّك وعي إلى راصد تغريدة، من طرف في صناعة المستقبل إلى شاهد على تبخره. لكن المفارقة أن الحاجة إليه اليوم أكبر مما كانت عليه في أي وقت سابق. فالدول التي تعيش أزماتها المتراكمة لا تُنقذها القوة وحدها، بل الكلمة التي تجرؤ على إعادة تعريف الممكن. والمجتمع الذي يغرق في الفساد والإحباط لا يشعله خطاب الوزير، بل يقظة المثقف الذي يُذكّره بأن الكرامة مشروع قابل للحياة، لا مجرد ذكرى.

المثقف العضوي هو أيضاً جسر بين التاريخ والحاضر، بين تجربة الماضي ووعي المستقبل. هو الحارس الذي يترجم خبرة الأجيال إلى دروس ملموسة، ويحوّل الألم الشخصي والجماعي إلى وعي جماعي. في غياب هذا الدور، تتحول المجتمعات إلى مسرح للمصادفات والسياسات قصيرة النظر، بلا جذور فكرية ولا مرجعيات أخلاقية.

في العراق، حيث تتقاطع المصالح والفساد واليأس، يظل المثقف العضوي المنارة التي تذكر الجميع بأن الطريق إلى التغيير ليس مستحيلاً، وأن الوعي ليس رفاهية، بل ضرورة، وأن الشجاعة الفكرية قادرة على إعادة البلاد إلى مسارها الصحيح. لكن هذا يتطلب أن يعود المثقف إلى مقعده الطبيعي: مقعد من لا يريد شيئاً سوى أن تظل البلاد واقفة، والناس أرفع من الألم، والمستقبل أقل قسوة مما يُراد له أن يكون.

قد يخفت صوت الحارس، لكنه لا يموت. قد ينسحب المثقف العضوي إلى الظل، لكن الظل نفسه يمكن أن يصبح مساحة للمقاومة، حين يعرف صاحبه كيف يشعل فيه مصباحًا صغيراً… يكفي أن يفعل ذلك دون أن ينتظر تصفيق أحد. لأن المثقف الحقيقي لا يبحث عن الشهرة، بل عن تأثير مستدام، عن إيقاظ الضمير، عن خلق فرصة للجمهور ليعيد التفكير، ليعيد الأمل.

المثقف في العراق اليوم بحاجة إلى ثلاثة أشياء: الشجاعة، والاستقلالية، والقدرة على التكيّف. شجاعة لمواجهة خذلان من حوله، واستقلالية في الحكم على الأشياء بلا التزام مصلحي، وقدرة على التكيّف مع واقع صعب، لكنه قابل للتغيير. في هذا السياق، يصبح المثقف العضوي حارساً حقيقياً ، ليس فقط للوعي، بل للمجتمع نفسه، لمنع الانحدار الكامل، ولحماية ما تبقى من نور في غرفنا المظلمة.

ربما يكون الطريق طويلاً ومليئاً بالخذلان والإحباط، لكن في كل فكرة صادقة، وكل كلمة تُقال بلا مواربة، يكمن بذرة تغيير. في العراق، كما في كل مكان آخر، لا يُقاس المثقف بما يكتب على الورق فحسب، بل بما يحفّزه في الناس، بما يتركه في الذاكرة الجماعية، بما يجعل البعض يقول: “لم نعد وحدنا”.

وهنا، فقط حين يعود المثقف العضوي إلى موقعه الطبيعي، يعود الضوء إلى الغرفة. حينها، يصبح الخذلان مجرد محطة عابرة، والتاريخ قادراً على سماع صوته، والمستقبل مكاناً أقرب إلى العدالة والوعي والكرامة.