التقاعد (محطة العمر أم محطة النسيان)

بقلم: الأستاذ م.م. حسين شكران الأكوش العقيلي – كاتب ومؤلف
حين يترجل الإنسان من صهوة العمل بعد عقود من الخدمة، يجد نفسه أمام منعطف جديد في رحلة العمر، منعطف لا يُقاس بالسنوات بقدر ما يُقاس بالذاكرة التي يحملها معه، والكرامة التي ينتظر أن تُصان. إن التقاعد ليس مجرد قرار إداري أو رقم في ملف وظيفي، بل هو لحظة فاصلة بين زمن العطاء وزمن الانتظار، بين صوت الحضور في مؤسسات الدولة وصوت الغياب الذي يخيّم على حياة المتقاعد.
المتقاعد هو صورة مكثفة لتاريخ طويل من الجهد، ومرآة صافية لمرحلة من العمر قضيت في خدمة المجتمع والدولة. غير أن هذه الصورة كثيراً ما تُحاط بظلال النسيان، وكأن المجتمع يطوي صفحة من كتابه دون أن يقرأها كاملة. فبينما يُفترض أن يكون التقاعد تكريماً للإنسان على ما بذل، يتحول في كثير من الأحيان إلى شعور بالهامشية، حيث يجد المتقاعد نفسه بعيداً عن دائرة القرار، قريباً من دائرة النسيان.
إن التقاعد في جوهره ليس نهاية، بل بداية لدور اجتماعي جديد، دور يقتضي أن يُستثمر فيه رصيد الخبرة والمعرفة، وأن يُعاد دمج المتقاعد في الحياة العامة باعتباره شاهداً على الماضي ومرشداً للحاضر. فالمجتمع الذي يُقصي متقاعديه إنما يُقصي ذاكرته الجمعية، ويُفرّط في خبرة تراكمت عبر عقود من العمل والالتزام.
ولعل أبرز ما يواجه المتقاعد هو التناقض بين النصوص القانونية التي تمنحه حقوقاً، والواقع الاجتماعي الذي كثيراً ما يحرمه من أبسط تلك الحقوق. فالقانون يقرّ له معاشاً تقاعدياً، لكن الواقع يضعه أمام أبواب مغلقة، ومعاناة يومية في مواجهة الغلاء والمرض والانتظار الطويل. وهنا تتجلى المفارقة بين ما يُكتب في الأوراق وما يُعاش في الحياة، بين ما يُعلن من تكريم وما يُمارس من تهميش.
إن المتقاعد ليس عبئاً على الدولة، بل هو ركيزة من ركائزها، وذاكرة من ذاكرتها، وضمير من ضمائرها الحية. فحين يُكرّم المتقاعد، يُكرّم العمل ذاته، وحين يُهمل، يُهمل تاريخ من العطاء. ومن هنا فإن إعادة الاعتبار للمتقاعد ليست مجرد مطلب اجتماعي، بل هي واجب أخلاقي وقانوني، وشرط من شروط بناء مجتمع يحترم الإنسان في كل مراحل عمره.
التقاعد إذن ليس محطة للنسيان، بل محطة للتأمل وإعادة الاعتبار، محطة ينبغي أن تتحول إلى جسر يربط الماضي بالحاضر، ويمنح المتقاعد مكانة تليق بما قدّم من خدمة وما حمل من ذاكرة. فالمجتمع الذي يحترم متقاعديه إنما يحترم نفسه، ويصون تاريخه، ويؤكد أن الكرامة لا تُختزل في سنوات العمل، بل تمتد لتشمل كل العمر.