الفقه المقارن أداة الاجتهاد وسبيل التقريب بين المسلمين

بقلم: م.م. حسين شكران الأكوش العقيلي – كاتب ومؤلف

يُعدّ الفقه المقارن عند الشيعة واحداً من أهم العلوم التي أسهمت في تعميق الفهم الشرعي، وإثراء الفكر الإسلامي بمنهجية دقيقة تجمع بين النظر العقلي والاعتماد على النصوص الشرعية. هذا العلم لم يكن مجرد دراسة نظرية للآراء المختلفة، بل تحوّل إلى وسيلة حيوية لفهم مراد الله تعالى عبر مقارنة الأدلة، وتحليل أسباب الاتفاق والاختلاف بين المذاهب الإسلامية، بما يفتح آفاقاً واسعة للتقريب والتفاهم.
لقد أدرك كبار فقهاء الشيعة، منذ العصور الأولى، أن الفقه المقارن ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة علمية واجتماعية. فالعلامة الحلي، والطوسي، وغيرهما من الأعلام، أسسوا لهذا العلم أمهات الكتب التي أصبحت مراجع أساسية، لا تقتصر فائدتها على المذهب الشيعي وحده، بل تمتد لتكون جسراً معرفياً بين مختلف المدارس الإسلامية. ومن خلال هذا الإرث، تبلورت رؤية شمولية تجعل من الفقه المقارن أداةً لفهم النصوص الشرعية بعمق، وتفسيرها بما يتناسب مع متغيرات الزمان والمكان.
إن أهمية الفقه المقارن تكمن في قدرته على كشف الجذور الحقيقية للخلافات الفقهية، بعيداً عن التعصب أو الانغلاق. فهو يضع أمام الباحث والمجتهد صورة متكاملة للآراء، ويتيح له أن يوازن بينها وفق قواعد الاستدلال المعتبرة، ليصل إلى نتائج أكثر رسوخاً وموضوعية. وهذا المنهج يرسّخ ثقافة الحوار العلمي، ويُسهم في بناء جسور الثقة بين المسلمين، حيث يتحول الاختلاف من عامل انقسام إلى فرصة للتكامل والتقارب.
كما أن الفقه المقارن يزوّد المجتهدين بمرونة فكرية عالية في مواجهة التحديات المستجدة. ففي عالم سريع التحولات، يحتاج الفقيه إلى أدوات تساعده على استيعاب المستجدات، وإيجاد حلول شرعية متوازنة تراعي النصوص وتستجيب لضرورات الواقع. وهنا يظهر دور الفقه المقارن كمنهج يفتح أبواب الاجتهاد، ويمنح الفقيه قدرة على التعامل مع القضايا المعاصرة بروح منفتحة، دون أن يفقد أصالة النص أو قوة الدليل.
ولا يخفى أن هذا العلم يحمل رسالة إنسانية تتجاوز حدود البحث الفقهي، إذ يسعى إلى تعزيز الوحدة الإسلامية عبر إبراز المشتركات، وتخفيف حدة الخلافات، وإيجاد أرضية صلبة للتفاهم بين المذاهب. فالمسلمون، مهما اختلفت مدارسهم، يجتمعون على هدف واحد هو طلب الحق ومراد الله، والفقه المقارن يذكّرهم بأن الاختلاف في الفروع لا ينبغي أن يحجب وحدة الأصول.
إن الفقه المقارن عند الشيعة ليس مجرد صفحات في كتب التراث، بل هو مشروع حضاري متجدد، يربط الماضي بالحاضر، ويمنح الفكر الإسلامي قدرة على الاستمرار والتجدد. إنه علم يعلّمنا أن الحوار أساس الفهم، وأن المقارنة ليست خصومة، بل وسيلة للوصول إلى الحقيقة بأدلة متينة، ومنهجية رصينة، وروح تسعى إلى التقريب لا التفريق.
وبهذا المعنى، يبقى الفقه المقارن أداةً للاجتهاد، وسبيلًا للتقريب، وركيزةً لبناء مستقبل إسلامي يقوم على الفهم العميق، والتواصل الصادق، والبحث المستمر عن مراد الله تعالى، كما أراده الأعلام الذين أسسوا لهذا العلم، وكما يحتاجه المسلمون اليوم لمواجهة تحديات العصر بروح منفتحة ووعي أصيل.