رياض سعد
*المال بوصفه مُشكِّلًا للوعي: كيف يصوغ الدخل أفكار الناس وسلوكهم؟
يميل الإنسان إلى الاعتقاد بأن أفكاره نابعة من قناعات داخلية خالصة، وأن مواقفه من السياسة والدين والأخلاق ثمرة تفكير عقلاني مستقل… ؛ غير أن التجربة الاجتماعية، حين تُقرأ بعمق، تكشف أن الدخل—سواء كان راتب موظف، أو أجر عامل، أو أرباح تاجر، أو عوائد مستثمر—لا يحدد فقط مستوى المعيشة، بل يترك أثرًا بالغًا في طريقة التفكير، وحدود الوعي، وأنماط السلوك اليومي.
نعم , يحبّ الإنسان أن يعتقد أن آراءه في الدين والسياسة والأخلاق نابعة من تفكير حرّ وتأمل شخصي مستقل , وتجارب شخصية محضة ، وأن قناعاته ثمرة وعي خالص لا تحدّه الظروف ولا تضبطه المصالح… ؛ غير أن هذا التصور، على جاذبيته، يبدو هشًّا عند إخضاعه للتحليل الاجتماعي العميق… ؛ فالفيلسوف وعالم الاجتماع كارل ماركس يقدّم رؤية مقلقة مفادها أن ما نعتقده ليس منفصلًا عمّا نعيشه، وأن أفكارنا غالبًا ما تُصاغ في المكان ذاته الذي يُصاغ فيه راتبنا.
*كيف يربط ماركس وفيبر وبورديو بين المال والوعي؟
ولعل هذا السؤال البسيط قد يربك هذا التصور: هل نفكّر بالطريقة نفسها لو تغيّر دخلنا؟
الفلاسفة وعلماء الاجتماع لم يتجاهلوا هذا السؤال، بل جعلوه محورًا لفهم المجتمع… ؛ كارل ماركس، وماكس فيبر، وبيير بورديو—رغم اختلافهم—يتفقون على فكرة أساسية : الدخل لا يحدد فقط كيف نعيش، بل كيف نرى العالم.
ماركس: الراتب يصنع الوعي قبل أن يصنع الرأي … ؛ عند ماركس، لا يبدأ التفكير من الرأس، بل من الجيب... ؛ فهو يرى أن طريقة كسب العيش—راتب موظف، أجر عامل، أرباح تاجر—تشكل ما يسميه البناء التحتي: الاقتصاد، والعمل، والملكية… ؛ ومن هذا الأساس تنبثق الأفكار، والقوانين، والدين، والسياسة، أي البناء الفوقي.
فالموظف ذو الدخل المحدود يعيش غالبًا ضمن أفق ضيق من الخيارات… ؛ تفكيره اليومي ينشغل بتدبير الإيجار، وفواتير الخدمات، ومتطلبات الأسرة… ؛ هذا الضغط المستمر يجعل الاستقرار أولوية قصوى، ويحوّل الخوف من فقدان الدخل إلى عامل مؤثر في السلوك السياسي والاجتماعي… ؛ لذلك يميل كثير من أصحاب الرواتب الثابتة إلى تفضيل الأنظمة التي تعد بالأمان الوظيفي، حتى لو كانت على حساب التغيير أو العدالة الواسعة أو المصلحة الوطنية العليا .
أما العامل الذي يعتمد على الأجر اليومي أو الموسمي، فيعيش حالة عدم يقين مزمنة… ؛ دخله مرتبط بصحته، وبطلب السوق، وبمزاج ربّ العمل… ؛ هذا الوضع يولّد وعيًا مختلفًا، أكثر حساسية تجاه الظلم المباشر، وأشد إدراكًا لهشاشة الحياة الاقتصادية… ؛ لكنه في الوقت نفسه قد يدفع إلى القبول بالأمر الواقع، أو إلى البحث عن خلاص فردي سريع بدل التغيير الجماعي البعيد.
في المقابل، يتشكّل وعي التاجر والكاسب الحر في فضاء آخر… ؛ فالدخل هنا مرتبط بالمخاطرة، والفرص، والمنافسة… ؛ ولذلك تميل رؤيته للعالم إلى تمجيد المبادرة الفردية، وتقديس السوق، والنظر إلى النجاح بوصفه نتيجة ذكاء واجتهاد شخصي، لا نتاج بنية اقتصادية أوسع… ؛ ومن هذا المنطلق، يُفسَّر الفقر غالبًا باعتباره فشلًا فرديًا لا خللًا بنيويًا، وتُرفض الدعوات إلى إعادة التوزيع بوصفها تهديدًا لـ«الحرية الاقتصادية».
أما أصحاب الدخول المرتفعة ورؤوس الأموال الكبيرة، فيعيشون مستوى من الأمان يعفيهم من التفكير في الضروريات… ؛ هذا الفائض المادي يسمح لهم بالانشغال بالقيم المجردة، وبخطابات أخلاقية عامة قد تبدو إنسانية، لكنها في كثير من الأحيان تنفصل عن معاناة الفئات الدنيا… ؛ كما يمنحهم نفوذًا ثقافيًا وإعلاميًا يمكّنهم من تحويل مصالحهم الخاصة إلى مبادئ عامة تُقدَّم بوصفها منطقية وطبيعية... ؛ لهذا قال ماركس عبارته الشهيرة: «أفكار العصر السائدة هي أفكار الطبقة السائدة… » فالذين يملكون المال، يملكون أيضًا القدرة على تحديد ما يُعتبر طبيعيًا، وعادلًا، ومنطقيًا… ؛ والطبقة التي تملك وسائل الإنتاج المادي، تملك في الغالب وسائل إنتاج الوعي أيضًا… ؛ فهي التي تحدد ما يُدرّس، وما يُبث، وما يُناقش، وما يُقصى من المجال العام… ؛ وهكذا لا تُفرض الهيمنة بالقوة وحدها، بل عبر الإقناع، وتحويل المصالح الخاصة إلى قيم عامة، والامتيازات الطبقية إلى مسلّمات أخلاقية.
هكذا يتضح أن أصحاب الراتب والأجر والمدخول لا يرسمون فقط نمط الاستهلاك، بل يحددون شكل العلاقات الاجتماعية، ونبرة الخطاب السياسي، وحدود التسامح، وحتى فهم الدين والأخلاق… ؛ فالقلق الاقتصادي يولّد محافظة وخوفًا من المغامرة، بينما يولّد فائض الدخل ثقة بالنفس ونزعة لتبرير الواقع القائم.
فالفرق بين موظف يتقاضى راتبًا ثابتًا بالكاد يغطي احتياجاته الأساسية، وتاجر تتقلب أرباحه مع السوق، ومستثمر تتراكم لديه رؤوس الأموال، ليس فرقًا في الأرقام فحسب، بل هو فرق في زاوية النظر إلى العالم… ؛ فالدخل لا يوفّر السلع فقط، بل يوفّر الإحساس بالأمان أو القلق، وبالاستقرار أو الهشاشة، وهذه المشاعر تشكّل الخلفية النفسية التي تُبنى عليها المواقف الفكرية والاجتماعية كما اسلفنا ... ؛ حتى من يعاني اقتصاديًا، قد يشعر بالذنب لأنه لم ينجح بعد، وكأن المشكلة فيه لا في النظام... ؛ هنا، يصبح الراتب معيارًا للقيمة الشخصية، لا مجرد دخل.
ينطلق ماركس من فكرة مركزية تقول إن الوجود الاجتماعي يسبق الوعي، أي أن الطريقة التي ننتج بها حياتنا المادية ونكسب بها رزقنا تحدد، إلى حدّ بعيد، منظومتنا الفكرية والقيمية… ؛ فالمجتمع، في نظره، ليس مجموعة أفكار متجاورة، بل بناءٌ متكامل له أساس اقتصادي صلب، تقوم عليه طبقات من القوانين والثقافة والسياسة والأخلاق.
هذا الأساس، أو ما يسميه بالبناء التحتي، يتمثل في وسائل الإنتاج وعلاقات العمل: من يملك الأرض والمصانع، من يتحكم في رأس المال، ومن يبيع قوته مقابل أجر… ؛ وحين يتغير هذا الأساس، لا تبقى الحياة على حالها؛ إذ تتبدل العلاقات الاجتماعية، وتتغير أنماط العيش، ويعاد تعريف مفاهيم مثل العدالة والنجاح والكرامة… ؛ أما ما يطفو فوق هذا الأساس، فهو البناء الفوقي، عالم الأفكار والرموز والتشريعات… ؛ هنا نجد الدين، والقانون، والسياسة، والإعلام، والتعليم، والفنون. وهذه المجالات، وإن بدت مستقلة ومحايدة، فإنها غالبًا ما تتكيّف مع طبيعة الأساس الاقتصادي السائد، وتعمل على تبريره ومنحه شرعية أخلاقية وفكرية كما اسلفنا .
فحين تقوم البنية الاقتصادية على الملكية الخاصة الواسعة، تنشأ قوانين تحميها، وخطابات أخلاقية تمجّدها، وثقافة تعتبرها نتيجة طبيعية للاجتهاد والكفاءة… ؛ وحين تتركز الثروة في أيدي قلة، يُقدَّم هذا التفاوت بوصفه أمرًا طبيعيًا أو حتميًا، لا نتيجة علاقات قوة غير متكافئة.
ولا يعني هذا التحليل أن الإنسان أسير دخله بشكل مطلق، أو أن الإنسان مجرّد كائن مسلوب الإرادة, أو أن الفكر بلا قيمة معنوية , أو أن الوعي لا يمكن أن يتجاوز شروطه المادية، لكنه يؤكد أن أي حديث عن الأفكار والسلوكيات بمعزل عن الواقع الاقتصادي يظل حديثًا ناقصًا… ؛ فالأفكار لا تولد في الفراغ، بل تنمو في تربة الدخل، وتتشكل ضمن حدود المعيشة، وتتلوّن بلون الأمان أو الحرمان... ؛ وأن كل خطاب، مهما بدا ساميًا أو محايدًا، يحمل في داخله أثرًا لشروطه المادية… ؛ فلفهم أي موقف ديني أو سياسي أو أخلاقي، لا يكفي تحليل لغته وشعاراته، بل يجب البحث عمّن يستفيد منه، ومن يخسر، وما الموقع الطبقي الذي ينطلق منه.
فيبر: المال لا يكفي… المعنى مهم أيضًا… ؛ ماكس فيبر لا يختلف كليًا مع ماركس، لكنه يضيف بُعدًا مهمًا: ليس الدخل وحده من يصنع الوعي، بل المعنى الذي نعطيه للعمل والنجاح... ؛ فيبر يشرح كيف أن الأخلاق البروتستانتية، مثل تقديس العمل والانضباط والادخار، ساهمت في نشوء الرأسمالية الحديثة… ؛ أي أن القيم الدينية والثقافية لم تكن مجرد انعكاس للاقتصاد، بل لعبت دورًا في تشكيله... .
بالنسبة للشباب اليوم، يظهر هذا في ثقافة «الإنجاز» و«تطوير الذات» و«العمل بلا توقف»... .
بورديو: ليس المال وحده من يقرر فرصك … ؛ بيير بورديو يذهب أبعد من ذلك، فيقول إن المال مهم، لكنه ليس كل شيء... ؛ فإلى جانب رأس المال الاقتصادي، هناك :رأس مال ثقافي (التعليم، اللغة، الذوق) … ؛ رأس مال اجتماعي (العلاقات، الشبكات) … ؛ رأس مال رمزي (السمعة، المكانة) … .
شاب براتب متوسط لكنه يملك تعليمًا جيدًا، وعلاقات قوية، وقدرة على «التصرف بثقة»، يملك فرصًا أكثر من آخر بدخل مشابه لكنه يفتقد هذه الموارد... ؛ ومع الوقت، تتحول هذه الفروق إلى أسلوب حياة وطريقة تفكير يسمّيها بورديو : (( الهابيتوس )) : طريقة في الكلام، واللبس، والطموح، وحتى في ما نراه ممكنًا أو مستحيلًا.
ماذا يعني هذا لنا؟
يعني أن: آرائنا ليست محايدة تمامًا … ؛ سلوكنا اليومي مرتبط بمدخولنا أكثر مما نعتقد … ؛ فالصراع ليس فقط على المال، بل على المعنى والفرص والاعتراف … .
كما يعني أن فهم أنفسنا يبدأ بسؤال بسيط لكنه عميق:
في أي موقع اقتصادي أعيش؟ وكيف يؤثر ذلك على ما أؤمن به؟
الوعي لا يعني إنكار تأثير المال، بل إدراكه.
وحين نفهم كيف يشكّل الدخل أفكارنا، نبدأ أول خطوة نحو التفكير الحرّ، لا الوهمي.
نعم , في النهاية، لا يشتري المال السلع وحدها، بل يشتري الوقت، والأمان، وفسحة التفكير، ويمنح صاحبه القدرة على اختيار مواقفه أو الدفاع عنها… ؛ ومن هنا، فإن فهم الإنسان يبدأ من فهم دخله، وفهم المجتمع يبدأ من فهم كيفية توزيع المال فيه.
كذلك يدعونا هذا المنظور إلى قراءة الواقع قبل تصديق الخطاب، وإلى مساءلة ما نعتبره بديهيًا أو مقدسًا… ؛ فالراتب لا يحدد فقط مستوى العيش، بل يرسم، في كثير من الأحيان، حدود التفكير، وزاوية النظر إلى العالم، وطريقة فهم الحق والعدل والمعنى.