اسم الكاتب : داخل حسن جريو
هناك مثل شعبي يرددها أهلنا في العراق كثيرا , ” كلمة ورد غطاها ” , بمعنى بالمختصر المفيد, وبالمختصر المفيد نقول أن هناك ثمة حالة إنفصام غريبة يعاني منها بعض المثقفين العراقيين المغتربين في بلاد الله الواسعة باتت واضحة وظاهرة جليا للعيان , تمثلت هذه الحالة بعدم إكتراث البعض منهم بهموم وطنهم العراق الذي ولدوا وعاشوا وترعرعوا وتعلموا وعملوا سنين طويلة فيه , وما حلّ به من كوارث ومصائب جمة تدمي القلوب , وكأن لسان حالهم يقول الحمد لله فقد نجينا بأنفسنا من تلك المصائب وليكن من بعدنا الطوفان لوطن يغرق دون معين . فإذا مت ظمأنا فلا نزل القطر , على الرغم أنه لم يكن لهذا الوطن المسكين ذنب بما حل بهم , ذلك أن ما حلّ بالعراق كان نتيجة سياسات البطش والإستبداد الذي مارسته حكوماته تحت يافطات شتى , إحترق نتيجتها اليابس والأخضر وطال ضرره جميع فئات وأطياف المجتمع على حد سواء .
وبدلا من التصدي لهذه الحكومات الظالمة , نأى البعض بنفسه عنها بمحض إختياره , حيث فضل الرحيل والهجرة والعيش في بلاد الله الواسعة لاجئا أو مهاجرا , بحثا عن حياة كريمة آمنة , يمكن أن تحقق له أحلامه وطموحاته. وياليت البعض منهم إكتفى بهذه الحياة الجديدة ونسى أو تناسى وترك العراق الجريح بحاله يضمد جراحه , بل جعلوا من أنفسهم أدوات ومعاول بأيدي مخابرات الدول الأجنبية لتفتيت العراق وتدمير كل ما تبقى فيه من بقايا حياة ومعالم حضارية جميلة , بينما إكتفى آخرون بالتنظير فيما يجب أن يفعل العراقيون الصامدون في وطنهم الجريح لتحريره من مخالب الذئاب التي إفترسته ومزقت أشلاؤه , لينعموا هم بخيراته بعد عودتهم متفضلين ليمسكوا زمام السلطة فيه بصفة خبراء ومفكرين وعلماء وقادة فكر.
وليس بعيدا عن الأذهان المذكرة التي وقعها عدد كبير من الأكاديميين والمثقفين العراقيين المغتربين في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ودول أوربية أخرى مطلع الألفية الثالثة, المتضمنة مناشدة الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية وحكومات دول غرب أوربا , بغزو العراق وإحتلاله بدعاوى زائفة بإمتلاكه أسلحة دمار شامل , وهم يدركون تماما زيف دعاواهم وبطلانها, كما ثبت ذلك فيما بعد للقاصي والداني . لم يبدي أحدا منهم ندمهم أو أسفه لهذا الفعل الشنيع بحق بلاده وشعبه وما آلت إليه أحوال العراق من خراب ودمار . والأنكى من ذلك أن بعضهم قد رافق القوات الغازية دون خجل بصفة مترجمين ومستشارين للعمل قي طاقم إدارة الإحتلال . وحيث أن هؤلاء المرتزقة الذين باعوا وطنهم من أجل حفنة من الدولارات, ومنوا أنفسهم باحلام وردية بتوليهم مناصب حكومية رفيعة تحت الحماية الأمريكية , سرعان ما غادرالكثير منهم العراق غير مأسوف عليهم, بعدما صدموا بعراق جديد يختلف شكلا ومضمونا تماما عن العراق الذي غادروه منذ عقود , لدرجة باتوا يشعرون فيها وكأنهم غرباء في وطنهم الأم ,الذي لم يعد يربطهم به سوى رابطة الدم واللغة , وذلك بسبب عمق التغيرات التي طرأت على المجتمع العراقي خلالها . كما أبعدتهم سنين الغربة عن الشعور بهموم العراقين ومعاناتهم سنين طويلة تحت وطأة حصار ظالم , التي تركت ندبا لا تنسى في الذاكرة العراقية الحية والتي لن تتسامح مع كل من باع العراق وخانه تحت أي مسمى أو أية ذريعة , فالخيانة لها وجه واحد كالح لا تنفع معه كل مساحيق التزويق أبدا .
ومن تبقى منهم وإستمر بخدمة المحتل الأجنبي لتنفيذ مشروعه الإستعماري المزوق بيافطة الديمقراطية وحقوق الإنسان زورا وبهتانا , وتحصن في بروج مشيدة ظانا أنها ستحميه من غضب الشعب ولعنة الله والتاريخ , فقد راح يسابق الزمن بنهب أموال العراق وسرقة آثاره وتزوير تاريخه ومحو معالمه الحضارية ليجعل منه وطنا بلا تاريخ ولا هوية وطنية , لتسهل على الغزاة تنفيذ مشروعهم الخبيث بتفتيت العراق وطنا وشعبا بتدمير دولته وحضارته . لم يعد هؤلاء يتحدثون عن الشعب العراقي بصفته شعبا متعدد الأعراق والأديان والطوائف كبقية شعوب الأرض , بل إستبدلوا مصطلح الشعب المتعارف عليه في كل مكان , بمصطلح ” المكونات ” , وهو مصطلح غريب وغير متداول في مكان آخر , ويحمل في طياته بذور الفتنة والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد , ذلك أن مفهوم الشعب يعني إنصهار أبناء الوطن الواحد في مصير واحد وبالعيش المشترك في وطن واحد بصرف النظر عن الإنتماءات الأثنية والدينية والأثنية , بينما يفهم من مصطلح المكونات , جماعات بشرية مختلفة عن بعضها البعض يراد جمعها في إطار واحد لتحقيق غايات معينة , بحيث يسهل تفتيتها كلما إقتضت مصالح البعض من ذوي السلطة والنفوذ ذلك .
ولتحقيق غاياتهم الدنيئة , فقد وظفوا بعض وسائل الإعلام لترويج فكرة زائفة , مفادها أن العراق بلدا مصطنعا لا وجود له قبل مائة عام , أوجدته المصالح البريطانية مطلع القرن العشرين المنصرم , ضاربين عرض الحائط كل حقائق التاريخ والجغرافية التي جميعها تؤكد وحدة العراق أرضا وشعبا , فقد عرف العراق منذ آلاف السنين ببلاد النهرين ( نهري دجلة والفرات ) أو بلاد الرافدين , وقامت على أرضه أعظم الحضارات في جنوبه ( حضارة سومر وأكد ) ووسطه ( حضارة بابل ) وشماله ( حضارة آشور ) , والحضارة العباسية وعاصمتها بغداد التي إمتد سلطانها من مشارق الأرض إلى مغاربها وغيرها . ويعد العراق مهد أقدم الحضارات الإنسانية , ولا ينفي تنوعه السكاني كونه بلدا واحدا , فقد عاشت في كنفه أمم مختلفة عبر تلك الحضارات العظيمة التي أعطته بعدا إنسانيا عميقا ضاربة جذوره في أعماق التاريخ .
وبدلا من التأكيد على وحدة الشعب العراقي من منطلق الهوية الوطنية , راح البعض يروج لفكرة إنتماءات أثنية فرعية بهف ضرب الإنتماء الوطني العراقي , الإنتماء الجامع الشامل لجميع العراقيين , من منطلقات زائفة بدعوى الحفاظ على هويته الأثنية المهددة بالإنقراض والخوف من الإنصهار في الهوية الوطنية العراقية, علما أن أفرادها يمارسون كافة حقوقهم الدينية والثقافية أسوة بمواطنيهم الأخرين من مختلف الأديان والأثنيات تماما .
وذهب آخرون للإحتماء بهويته الدينية أو الطائفية تارة بدعاوى المظلومية , وتارة أخرى بدعاوى التهميش وضياع الحقوق , والنتيجة واحدة في كلتا الحالتين , تمزيق النسيج الإجتماعي العراقي وتفتييت الوطن الواحد من منطلقات لا تخدم أيا منهم , بل تصب جميعها في مصلحة الأجنبي المتربص للنيل من العراق والعراقيين أيا كانت أديانهم وطوائفهم . وهذا ما أكدته الأحداث منذ غزو العراق عام 2003 وحتى يومنا هذا , حيث شهد العراق وما يزال يشهد خرابا ودمارا طال كل مفاصل الحياة , وفسادا ونهبا للمال العام دون رقيب أو حسيب , وفقرا وجوعا وإنتهاكا للحرمات في بلد وهبه الله الخير الوفير .
ويلهوا مثقفون آخرون بترف فكري بعيدا عن هموم الوطن , فتراهم مهتمون من منطلقات إنسانية بحقوق المثلية الجنسية السائدة في بلدان المغتربين أكثر من إهتمامهم بهموم العراقيين التي تدمي القلوب , بينما يعلم القاصي والداني أن المثليين الجنسيين نساءا ورجالا باتوا يتمتعون بحماية قانونية كاملة في بلدانهم ,بما فيها حق الزواج فيما بينهم وبمباركة الكنيسة, أو يتصدوا لموضوع حجاب المرأة المسلمة المغتربة و الذي هو حق من حقوق الإنسان لا يسيئ لأحد. , وربما كان الأولى الحديث عن مشكلات المغتربين في بلدان المهجر , وعزوف البعض منهم من الإندماج في مجتمعاتهم الجديدة دون المساس بثوابتهم الوطنية ومعتقداتهم وقيمهم الإنسانية وأعرافهم , وإستمرار التواصل مع ثقافات وحضارات بلدانهم الأصلية دون التنكر للبلدان التي أوتهم ووفرت لهم الأمن والآمان , مواطنين كرام شأنهم شأن الآخرين في الحقوق والواجبات .
وهنا نؤكد على دور المثقف الوطني المغترب الملتزم بقضايا أمته والمتفاعل مع هموم شعبه من منطلقات إنسانية , ممن إضطرته الظروف لترك وطنه بحثا عن ملاذات آمنة وعيش كريم في بلدان أخرى , التواصل مع مثقفي بلاده الأم ومفكريها والسعي بكل الوسائل لإنقاذ بلاده من عبث العابثين وتخليصها من فساد المفسدسن , وفضحهم في جميع المحافل الدولية , ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين من أبناء شعبه الذين غدرت بهم الظروف ليهيموا في بلاد الله الواسعة .
ونختتم مفالنا هذا بقول الله تعالي بسورة الرعد : بسم الله الرحمن الرحيم
فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
صدق الله العظيم.