اسم الكاتب : حمزة الحسن
عندما نتعرض لنقد المثقف العراقي، لا نعني مثقفاً مصنفاً على حزب أو قومية أو طائفة أو جماعة،
بل نعني المثقف بلا اختزال ولا انتقائية، المثقف المنغرز في القضايا الوطنية الكبرى والصغرى،
ولا نعني المثقف الحزبي، من أي صنف، أو التبشيري الواعظ من أي دين أو طائفة، لأن” هذا المثقف” لا يحاور ولا يعرف قواعد الحوار النقدي، لأن صورته عن الحياة وعن نفسه وأفكاره مكتملة وجاهزة، بناء على نص بشري أو نص ديني مٌفسر، رغبياً،
وهو يملي ويفرض ويقرر ولا يناقش او يسأل أو يفهم بل يبارز، والكلام معه كالدخول الى حلبة ثيران و ليس حلقة حوار.
العلاقة بين هؤلاء علاقة شيخ ومريد، شيخ يردد ويصقل ومريد متبرع بعقله للاصغاء والهز، واذا غضب هذا” المثقف” يغضب معه حشد من المريدين، حقاً أو باطلاً: لا حوار ولا بحث ولا علاج مأزق. نحن لم نخرج من عقلية وزمن بيت الشاعر جرير:
” اذا غضبت عليك بنو تميم ــــ حسبت الناس كلّهمُ غضابا”. كل النصوص معرضة للتأويل، عدا عناوين البيوت واسماء المحلات وارقام الهاتف وعلامات الطرق واسماء وتواريخ شواهد القبور، اذا استثنينا العبارات الملغزة المرفقة فوق اسماء الموتى.
ولا نقصد أيضا” المثقف” الخاضع لسلطة ” الصك”، لأن هذا يكتب كما يعزف الزمار لمن يدفع.
لكننا هنا، اسثناءً، في معرض نقد للمثقف الكردي خاصةً، شريكنا في الحياة والتاريخ والأرض والمصير والمستقبل والكوارث والأمل. من تاريخ 2003 والعراقيون يُقتلون علناً، ولا نريد الحديث عن كوارث أخرى معروفة، لكننا لم نقرأ، الا استثناءات نادرة لمثقفين أكراد في رفع صوت الاحتجاج ضد هذا القتل، كما لو ان المذابح تجري في فيلم متخيل،وهناك صمت هو في الحقيقة لغة،
لأن الصوت لغة وموقف كما ان الصمت لغة وموقف.
لكي لا نعمم هناك من المثقفين الاكراد القلائل الذين شاركونا في شجب القتل، ومحاولة تفكيك المحنة، لكن هؤلاء إما كتبوا هذه المواقف بصدق حقيقي من موقف يساري أو وطني عام، أو من باب التضامن والشراكة ودور المثقف.
في الحالتين كان ذلك مفرحاً ومشرفاً بصرف النظر عن طريقة قراءة المحنة، لأن هذا الاختلاف النظيف والنقدي بنّاء وضروري ومطلوب، لأن المحنة مركبة ومعقدة ولا تُرى من زاوية واحدة.
لكن غالبية من مثففين اكراد صمتواً، وهو ، أمام مذابح، ليس صمتاً.
في حين ان مثقفين وكتاباً ومناضلين عرباً دفعوا اثمانا باهظة دفاعا عن القضية الكردية، عبر مختلف مراحل نظم الحكم،
نفياً وسجناً وقتلاً، بل قاتل فريق الى جانب الحركات الكردية ضد حكوماتهم ” العربية” الدكتاتورية او الشوفينية،
وقتلوا في الجبال وبعضهم ما تزال قبورهم تشهد على ذلك في عزلتها الحزينة، وغربتها المزدوجة: غربة عن دمعة او باقة زهور او وقفة عزاء، وغربة أكبر ضياع القضية التي استشهدوا من اجلها.
حتى في الداخل العراقي كانت الشعارات على الحيطان تكتب، سراً، بالعبارة الشهيرة:
” اوقفوا القتال في كردستان”، وكانت هذه العبارة تعني الموت.
واحدة من هذه العبارات ظلت على جدران حائط كنت أمر منه في الطريق الى المدرسة، طفلاً، ورغم كل الصبغ والطلاء من رجال الأمن، لكن العبارة تظهر مع نزول المطر، حتى فكروا بهدم الجدار ــــ كما لو ان هدم الجدار يزيل الاحتجاج،
ويوم كنت أخطط لرواية” المختفي” تذكرت تلك العبارة ــــ وهي لا شك على حيطان مدن كثيرة في الوسط والجنوب ــــ ومن الصدف الغريبة انني كنت أتكلم في زيارة للسويد مع السيد محمد النهر ــــ أبو لينا ــــ في مالمو في آب 1993،
عن تلك العبارة الأسطورية التي فشلت كل الاصباغ في ازالتها، حتى فكروا بهدم جدار ثري متنفذ، أو هدم الظل،
فوجئت به يقول لي انه هو صاحب تلك العبارة. لكننا اليوم نقرأ مقالات صاخبة من مثقفين أكراد بصورة يومية على جرائم داعش وهي تقترب من قرى كردية في سوريا والعراق أو تقتل اكراداً وتحاصر مدناً، وبلغة استغاثة مشروعة بكل المقاييس،
لكن هل داعش اكتشاف ظهر هذه الايام فحسب؟ هذا هو الموقف الانتقائي ومخاطره، عندما يعتقد أي مثقف ان خطر الارهاب او الفاشية أو الدكتاتورية خطراً محلياً أو قومياً.
ان الشراكة في الأرض لا تعني التسلط، وليس فينا من هو مسؤول عن جرائم نظم حكم شملت الجميع، بما في ذلك ضحاياها من داخل أحزابها وجيوشها وقادتها، وليس من حق أحد تحميل أحدأ مسؤولية جرائم لم يكن مسؤولاً عنها، ولم يكن صاحب قرار بل هو ضحية أيضا، سواء كان راعياً أو جندياً أو مزارعاً.
كنا جميعاً من مختلف الملل والنحل نسمع قرارات مصيرية من محطات الراديو أو التلفاز المركزي ونذهب الى الحروب او السجون أو المقابر بعد نزع ثياب النوم، واستبدالها بثياب الحرب، وسواء كانت النتيجة نصراً وحشياً أو هزيمة مذلة، فنحن نذهب لاحتفالات النصر والهزيمة بالثياب نفسها، لأن خطاب السلط الدكتاتورية واحد في الحالتين.
حصار بلدة عين العرب أو كاباني من قبل داعش خلق لنا كابوساً اضافياً، لأننا نعرف جيداً معنى النفي والحرب والحصار والقتل وخراب البيوت والفقدان، وتدمير التفاصيل الانسانية الحميمية.
نقف مع أهلنا في كاباني بقلوب تحترق كما يقف طائر أمام عشه المخرب، لكن كاباني ليست كردية وليست سورية فحسب،
انها شعب معرض للقتل والتهجير على يد وحوش تستنكف منها حتى الوحوش. من شارك في مأساة كاباني وغيرها عن جهل او غفلة او بلادة أو توهم؟
ولماذا ارتفع صوت المثقف الكردي الانتقائي اليوم على هذه المجزرة الوشيكة؟
الذي شارك ــــ مع شركاء كثر ــــ في هذه الكارثة أو غيرها بوعي أو سذاجة، ولا يهم السبب لأن الكارثة حلت،
هو من أوهمه الغرب الاستعماري والامريكي بدولة مستقلة في العراق، شرط أن يعرقل بناء دولة عراقية معافاة،
وخلق لها مسلسل ازمات لا تنتهي، وحشرها كل يوم في مأزق جديد من مبدأ ان عرقلة بناء دولة عراقية مركزية،
يؤدي الى قيام دولة كردية.
لسنا ضد حق احد في رفض شراكة الأرض والوطن، لكن ليس من حق أحد أيضاً منعنا من بناء دولة قوية عبر مسلسل أزمات بعضها للمشاغلة والالهاء والعرقلة، وبعضها مشروع قابل للتأجيل، لكن يجري باسلوب الحشر والالحاح في ساعة منعطف،
من منطلق الفرصة السانحة أو عندما يسقط الجمل تكثر سكاكينه.
لكن لا تركيا ولا أمريكا ولا الغرب الاستعماري ــــ الغرب ونكرر ذلك ليس واحداً ــــ مشغول أمس واليوم وغدا بقضية الشعب الكردي ولا أية قضية أخرى غير مصالحه، بل هو يربح من مذابحنا مالاً من ” حرب طويلة” لأن الحرب القصيرة غير مربحة،
وقواعد عسكرية وفرصاً سياسية واقتصادية وغيرها.
اليوم اتضح للمثقف الكردي الانتقائي كما اتضح لشقيقه المثقف العربي الانتقائي من قبل صاحب مشروع” العراق الجديد” اي العراق الأمريكي، خراب هذه الذهنية. ان المناطق العازلة في سوريا ستكون نهاية لقضية الشعب الكردي في سوريا،
وهي ليست مناطق عازلة ولكنه خنق استراتيجي من احتمال دولة كردية تمتمد الى تركيا، كما انه حصار مستقبلي لكردستان العراق من أي منفذ سوري غير الباب التركي الذي يفتح ويغلق حسب الظروف والمصالح، وكما قال كاتب عراقي كردي إن تركيا خدعت سلطة كردستان طوال الوقت، ومن المؤسف بل من المخيف لأن القضية تتعلق بدماء الناس وحياتهم،
ان القيادة الكردية نفسها تعيد وتكرر” الخطيئة” نفسها في الرهان على آخر من الخارج، ثم تكتشف، مرات، ان الآخر لا يحلم الا بتحقيق مصالحه، وانه يستأجر” بنادق للايجار” ثم يتخلى عنها في وقت سريع، اذا وجد ان ثمن التخلي فيه مصلحة أكبر كما فعل شاه ايران عام 1975.
التلقين الشوفيني من أي طرف هو أخطر من داعش التي ستزول يوما، واسلوب دمج العراقيين العرب في نظام تآمري ضد الاكراد هو الذي أنتج هذا الصمت، وقَطع شراكة المواجهة في أصعب اللحظات المصيرية، مع ان سكاكين جزاري داعش محايدة ــــ بل عادلة ـــ ولا تفرق بين رقبة وأخرى.
يكتب المفكر السويسري فرانسوا فوركييه في كتابه” المال، القوة، الحب” عن شراكة الارض هذا الحادث الحقيقي:
جاران يكره احدهما الآخر مع قطيعة في الكلام.
الأول يملك (حقل أزهار) يعيش من أجله، والثاني يملك (حقل نحل) يعيش من اجله في انتاج العسل، نحل الثاني يلقح أزهار الجار الأول، لكن أزهار الأول ضرورية للنحل أيضاً لكي يتغذى عليها.
الجاران الغبيان، من دون معرفة، عاشا، ماليا، على رابطة اقتصادية متينة قامت بين النحل والازهار، وكل مسرات حياتهما اليومية مؤسسة على هذه العلاقة السرية بين النحل والازهار ، رغم الحقد المتبادل.
كم هي الروابط بيننا؟