اسم الكاتب : جاسم الحلفي
عبّر عدد من الأحزاب المدنية وفي القلب منها أحزاب تشرين، في بياناتها التي أعقبت اغتيال الناشط في الحركة الاجتماعية الشهيد إيهاب جواد الوزني،
عن نقد لاذع للبيئة الانتخابية القائمة وأُعلِن عن قرارات بمقاطعة الانتخابات المبكرة أو بتعليق المشاركة فيها، وحدّدوا شروطاً للعدول عن ذلك، وجاءت هذه المواقف غداة أكمال الأحزاب استعداداتها للمشاركة في الانتخابات وإعلانها العزم على خوض المنافسة، واستكمالها تسجيل أحزابها لدى المفوضية وتقديم اسماء مرشحيها، ودفعها رسوم التسجيل الباهظة بالنسبة لمعظم الأحزاب، لاسيما الناشئة منها.
حدث هذا رغم أن فكرة المقاطعة لم تكن غائبة في النقاشات داخل الأحزاب وفي الفضاء العام، بعد رصد عدم إقدام الحكومة على أية خطوة لحصر السلاح واحتكاره من قبل مؤسساتها الأمنية، وملاحظة الضعف الواضح في حماية الناشطين من التهديدات التي يتعرضون لها، والتي تسببت في نزوح عدد منهم الى محافظات إقليم كردستان، وهجرة عدد آخر الى خارج العراق، علماً أن القتل هو عنوان التهديد.
ويبدو أن موضوع المقاطعة، خاصة بعد صدور بيانات الأحزاب في أوقات زمنية متقاربة، أخذ طابعاً رسمياً وجدياً من جانب الأحزاب ذات الوجهة التغييرية، وتبعاً لذلك برزت أسئلة حول جوهر الموقف وتداعياته وجدوى المقاطعة، وحول الخطوة اللاحقة المرتقبة، وهل هو موقف سلبي من الانتخابات أو عزوف عنها؟ ولماذا والمنتفضون هم من رفع مطلب الانتخابات المبكرة؟
في قراءة فاحصة لبيانات الأحزاب المقاطعة وتصريحات قادتها، نجد تشديداً على أن لا خيار عندها سوى الديمقراطية، التي لا تقتصر على الانتخابات أو تنحصر في التنافس الحزبي، بل تتضمن قدرتها على حماية حرية التعبير وتأمين ضمانات العيش الكريم للمواطنين، من سكن لائق وفرص عمل وتعليم وطبابة وغيرها، وإنها تعتبر الانتخابات واحدة من آليات الديمقراطية، آلية لا بد منها لتحديد ثقل كل من القوى السياسية عبر سياقات منصفة ونزيهة، يأخذ من خلالها كل ذي حق حقه بعدالة عبر اقتراع تنافسي متكافئ، وتضمن في أجوائه الحرية الضرورية لممارسة الناخبين اختيارهم الحر لمن يمثلهم من المرشحين.
ولمناقشة قرار المقاطعة، وهل هو موقف سلبي أو عديم الجدوى؟ لاسيما وأن طغمة الحكم ستستغلها، كما يشير البعض، لتحصد بيسر مقاعد برلمانية في غياب من ينافسها؟ فيما يسأل آخرون عن ماهية الخطوة التالية بعد المقاطعة؟ يمكن تناول هذه الأسئلة وما يتفرع عنها مما يطرحه المواطن في شأن الخطوات التي تتخذها قوى منظّمة، وواجب توفير إجابات على كل ما يطرح، وتهيئة زاد معرفي وذخيرة للشباب في نقاشاتهم، ولا بد من إعادة التأكيد هنا أن الانتخابات آلية لا بديل عنها في حساب التمثيل السياسي، وإن المقاطعة هي قرار اعتراض سياسي على التشويهات التي رافقت التحضيرات، وبالأخص في ما يتعلق بتأمين البيئة الانتخابية الضرورية، فاذا اكتسب هذا القرار تأييداً شعبياً واسعاً، فإنه سيوفر إمكانية ردع سلمي تقضّ مضاجع طغمة الحكم، لهذا فالمتوقع هو تعرض هذا الأسلوب الى هجوم من قبل قوى السلطة عبر وسائل متنوعة، ليس آخرها محاولات تزييف الوعي الجمعي والخديعة والغش.
هنا أحاول تلخيص اجتهادي، وعرض ما أعتقد أنه جواب على ذلك:
1-لا بد من تثبيت حقيقة أن الانتخابات المبكرة هي مطلب المنتفضين، وقد طرحوه مشروطاً بمطالب نذكر منها:
أ- تشريع قانون انتخابات عادل ومنصف.
ب- تشكيل مفوضية مستقلة ومحايدة.
ث- تطبيق قانون الأحزاب.
ت- توفير بيئة انتخابية سليمة.
ج- محاكمة قتلة المتظاهرين.
ح- محاكمة حيتان الفساد.
خ- حصر السلاح بيد الدولة.
وهي مطالب غايتها ضمان نزاهة الانتخابات، كي تكون صدقاً أحد روافع التغيير، وتتيح للشعب العراقي اختيار الأفضل والأصلح، وتوفر إمكانية دخول قوى جديدة الى السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتغير موازين القوى لمصلحة بناء دولة تحفظ كرامة مواطنيها.
– عند معاينة مطلب الانتخابات المبكرة بشروطه واشتراطاته، نخرج باستنتاج مفاده أن طغمة الحكم افرغت هذا المطلب من محتواه عبر قضمه شيئاً فشيئاً، بحيث لم تُبق له معنى، وان نظرة فاحصة سريعة للاشتراطات المذكورة تعفي المرء من واجب اثبات التفاف القوى المتنفذة على ذلك كله، ويكفي أن نشير الى السلاح المنفلت المزعزع للسلم الأهلي، بحيث “فاق” قدرة أجهزة الدولة الأمنية على توفير الأمن للناشطين والإعلاميين. وكان آخر ضحايا إرهاب العصابات المسلحة هو الشهيد إيهاب الوزني الذي اغتيل يوم الاحد ٩ آيار ٢٠٢١ في كربلاء، ومحاولة اغتيال الإعلامي أحمد حسن في الديوانية في اليوم التالي الاثنين ١٠ أيار ٢٠٢١.
– إن عدم قيام الحكومة العراقية بواجبها في تهيئة الجو المناسب والبيئة الآمنة للانتخابات، يعني – بين ما يعني- فتحها الطريق أمام الطغمة لترسيخ نفوذها وتعزيز وجودها في السلطة، والتمترس فيها من دون معارضة رسمية، وبذلك تُسهم في ترسيخ حكم الأقلية المستبدة (الاولغارشية). وليس هذا إلا انحيازاً واضحاً الى الحكومة ولمصلحة المتنفذين على حساب قوى التغيير.
– أُجزم أن طغمة الحكم يؤرقها قرار مقاطعة الانتخابات، خاصة إذا اكتسب صفة شعبية، فهو يبيّن عزلها من قبل الشعب ورفضه لها، ما يؤسس لمعارضة شعبية واسعة، تبقى تنشغل وتجهد لفتح طريق آخر للتغيير. رغم إنها (الطغمة) لا تقبل بمنافسة قوية تهدد وجودها أو تقلص مساحة نفوذها، لذا فإن محاولات الحكومة ستستمر لقطع الطريق أمام أية منافسة قوية، وجعلها شكلية كي تستمر العملية الانتخابية في أجواء من “الشرعية”.
– إن عدم مشاركة الأحزاب والشخصيات في الانتخابات المبكرة إنما ينزع الشرعية المعنوية والأخلاقية عنها، فتغدو المرارة مذاق كل مسعى لإفراغها من جوهر المطلب بشروطه واشتراطاته، والعزلة عن الشعب هي المصير المحتوم للقوى المتنفذة.
-لا معنى للانتخابات إن بقيت ساحة التنافس مقتصرة على أحزاب طغمة الحكم/السلطة، فهذه الأحزاب موجودة أصلاً في السلطة، وكان لسوء إداراتها وإهدارها المال العام وعدم تقديمها منجزاً يستحق الذكر الى جانب فسادها وتداعيات سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وما خلفت من فقر وعوز وبطالة، كان لهذا كله أن أشعل الانتفاضة، وإن إعادة إنتاجهم في انتخابات تصمم لتوزيع المقاعد في ما بينهم، لن تعني سوى إدامة الأزمة وإبقائها مفتوحة.
– إن قرار المقاطعة قرار سياسي وليس فنياً، لذا ينبغي أن لا تتدخل المفوضية المستقلة للانتخابات بأي شكل يوحي بأنها تضغط على المقاطعين، فهذا يخرجها عن استقلاليتها وحيادها، الأمر الذي لا نتمناه من السادة القضاة الأفاضل الذين كلفوا بمهمة الإدارة الانتخابية، إنها حسب الدستور عملية إدارية وليست لها أية سلطة سياسية، وذلك ما إشارت اليه المادة الأولى من قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات المرقم (٣١) لسنة ٢٠١٩، والموقع من طرف رئيس جمهورية العراق في ٢٣/١٢/٢٠١٩، بنصها على أنها “هيئة مهنية مستقلة محايدة”، ومن هنا نشير الى التصريح الملتبس للمتحدثة باسم المفوضية السيدة جمانة الغلاي، المتعلق بإجراءات التحالف والاندماج بالنسبة للأحزاب السياسية، فالمادتان القانونيتان ٢٥ و ٢٦ اللتان اعتمدتهما في تصريحها تخصان التحالفات ولا علاقة لهما إطلاقاً بقرار المقاطعة، حيث يبدو أنه غاب عن بالها أن الانتخابات حق نصت عليه المادة (٢٠) من الدستور: “للمواطنين رجالاً ونساءً، حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح”، فالمادة المذكورة أوضحت الحق ولم تقل إنه واجب يعاقب كل من لا ينفذه، كذلك ليست هناك أية إشارة الى أية عقوبة في قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم (٩) لسنة ٢٠٢٠ الذي وقعه رئيس جمهورية العراق يوم ٥/١١/٢٠٢٠، فلا نص على أية عقوبة لمن يقاطع الانتخابات، وبالامكان مراجعة الأحكام الجزائية في المواد ٣١- ٣٧ من هذا القانون، كما لم ينص قانون الأحزاب رقم (٣٦) لسنة ٢٠١٥ والموقع من قبل رئيس جمهورية العراق في ١٧/٩/٢٠١٥، على أية عقوبة لمن يقاطع الانتخابات.
– لا يجوز اختصار الديمقراطية بالانتخابات، حيث ان الانتخابات واحدة من آليات الديمقراطية، لذا فمقاطعة هذه الآلية حينما يتبين انها صممت لصالح القوى المتسببة في خراب البلد وتخلفه وافقار شعبه، انما هي اجتهاد سياسي. فطريق التغيير لا تكفله الانتخابات وحدها، سيما بعد كل هذه الملاحظات بشأن طريقة التحضير لها وبخصوص بيئتها غير السليمة واعمال العنف والتضييق والترهيب التي يتعرض له الناشطون.
– ان المشاركة في انتخابات مصممة لترسيخ وجود الازمة، هو اسهام في إبقاء الازمة وليس في تجاوزها، وان المشاركة في هذه الحالة تعني القبول بالأوضاع المزرية التي يمر بها البلد، وتصويت بقبولها دون محاسبة المسؤولين والمتسببين فيها.
– المقاطعة عملية وليس لحظة، انها معركة سياسية/فكرية بامتياز، لذا ينبغي التحضير لها جيدا وتوفير كل الشروط والامكانيات لانجاحها. كما انها تحتاج الى ارادة قوية وعزيمة صادقة، والى قوى تعرف ما تريد وتركز على ما هو جوهري واساسي في هذه المعركة، بعيدا عن المماحكات الثانوية والتفاصيل المملة. وهي تتطلب جهدا تثقيفيا شعبيا واسعا، كي تتشكل للمقاطعين قاعدة شعبية يتمكنون من خلالها عزل المتنفذين وتأثيراتهم. وبهذا المعنى فانها خطوة أولى، ولكي تحقق فعلها المجتمعي فان من الواجب رفدها بخطوات أخرى منظمة ومنسجمة مع رؤية التغيير الشامل. وهذا يتطلب تنسيق مواقف القوى التي تعلن المقاطعة. اما الخطوة الثانية فهي انبثاق تحالف او جبهة سياسية معارضة، تتبنى المقاطعة كخيار سياسي ديمقراطي وتعطي المقاطعة اطارا سياسيا موضوعيا.
– ان المقاطعة ليست عزوفا وموقفا سلبيا، بل هي موقف ينطلق من رفض الواقع الحالي، ومن عدم القبول بطريقة المتنفذين في تصريف الازمة، والتي يعمقونها بها عن وعي او من دون وعي. كما انها معارضة للبيئة التي حرصت طغمة الحكم على إدامتها، وهي بيئة لا توفر العدالة والانصاف ولا تضمن تكافؤ الفرص، حيث لا مجال للتنافس بين القاتل والقتيل. وهكذا فالمقاطعة ليست دعوة سلبية، وانما هي نشاط سياسي جماهيري حيوي ومنظم. كما انها ليست دعوة للتخلي عن السلمية مثلما يتصور البعض، وإنما لتفعيل الضبط الجماهيري من اجل خلق شروط افضل.
– وأخيرا فالمقاطعة ليس موقف العاجز، كما انها ليست موقفا عدميا وانما هي موقف واعٍ، معارض لطغمة الحكم ومتصدٍّ لطريقتها في إدارة الازمة. وهي رد على تمسك المتحكمين بتشويه معالم الانتخابات عبر فرض إرادتهم وعجز المؤسسات المعنية، ومعارضة لسعيهم الى تكريس بيئة غير نزيهة تسمح بممارسة التزوير بمختلف اشكاله، وتغييب إرادة الشعب وتجريد الانتخابات من معناها الحقيقي في الاختيار الحر العادل. وهي ايضا ليست قرارا مسبقا تفرضه تقديرات عابرة، وإنما هي حصيلة دراسة متأنية للأوضاع السائدة.