اسم الكاتب : عبد السلام حيدر / أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
لا توجد حروب في العالم تهدد حياتنا اليوم غير تلك التي تدور بداخلنا، لا توجد مأساة عظيمة في العالم سوى حياتنا اليومية، نحن الجيل الذي تربى على التلفاز معتقدين أننا فى يوم من الأيام سنكون أثرياء أو نجوم أفلام أو من مشاهير العالم، ولكن يبدو أننا لن نكون، نحن نتعلم هذه الحقيقة ببطء، ونحن بالفعل فى حالة غضب شديد” – من رواية “نادي القتال” لـ”تشاك بولانيك”.
استغفال الناس والضحك عليهم مستمران، فالنقص لدى أي إنسان أمر مقلق، والرقص على هذا النقص موجع، فلذا كان سبيله مَن يخلصه مِن هذا الوضع، فيتبارى المخلصون، لكن ليس هناك أقسى من استغلال تطلعات الناس نحو السعادة والتغيير، ببيعهم وهماً على أنه طريق الخلاص المنشود، تتعدد ألوانه وتتغير مواضعه، وتتبدل أسماؤه، لكنه يبقى وهماً، يأتي من كل اتجاه.. فهل عشت الوهم أو عايشته أو عرفته؟
سؤال يجب أن نطرحه على أنفسنا دائماً وأبداً أمام ما نراه من ضغط هائل في كل شيء، وربما يمكننا القول بكل ثقة إن كل إنسان قد عاش في مرحلة ما من حياته وهماً أو جانباً منه.
من المؤكد أن للكلمة قوة ربما يجهلها الكثيرون.. فنحن نثرثر ولا نتكلم، يقودنا مَن عرف قوة الكلمة وعرف سرَّها، فبالكلمة يمكنك صناعة الوهم، وبالوهم ستبرمج العقول، أوهموك بأنك تعرف عدوك، فقد صنعوه وفق مقاييس علموها إياك.
صانعو الوهم يستغلون دوافعنا البشرية، لقد جعلوا للخوف وهماً، وللأمان وهماً، وللحرية وهماً، وللدين وهماً وللإنسانية وهماً ولأنفسنا وهماً.. وهذا العالم يدار بالوهم، ففي عالمنا الأكثر تعقيداً باتت صناعة الوهم لها مفكروها وفلاسفتها، فكما أن الإعلانات التجارية هي ممارسة توهيمية تهدف التأثير على المشاهد أو المستمع لجره إلى شراء سلعة معينة، أو الاقتناع بفكرة ما، كذلك هناك مستويات أخرى من التوهيم السياسي أو المعرفي.
والسلطة أي سلطة تبذل جهدها في صناعة الوهم؛ لتنسج من أحلام البسطاء وأمنياتهم مشاريع التجهيل والتغييب، وتجند حماستهم وتطلعاتهم نحو إنتاج المزيد من الخيال والوهم المحال؛ لتغدو الأمة غارقة في حالة من الانتظار الدائم للخلاص على يد المجهول، ومفرطة في أوهامها المترقبة دوماً لقدوم البطل المخلّص.
يعرف الوهم على أنه شكل من أشكال التشوه الحسي، ويدل على سوء تفسير الإحساس الحقيقي، كما يعرف أيضاً على أنّه إيمان الشخص بمعتقد خاطئ بشكل قوي، رغم أنّه لا توجد أدلة على وجوده أصلاً، إنه تلك الحالة التي يرى فيها الإنسان الأشياء على غير حقيقتها، بمعنى أنه يخلق صوراً ذهنية لا تطابق واقع الشيء، حيث يُعرف الشيء بالشيء، كأن تعرف حقيقة سخونة الماء بلمسه، ومن لم يجرب ذلك لا يمكنه أن يؤمن به أو قد يتشكك فيه.
والوهم لغة هو الظن الفاسد، وكل ما هو غير مطابق للواقع، والوهم اصطلاحاً هو إدراك الواقع على غير ما هو، أما الوهم من وجهة نظر فلسفية فهو كل خطأ في الإدراك شريطة أن يعد هذا الخطأ طبيعياً.
وجاء تفسير الوهم في الفلسفة الهندوسية “مايا” على أنه غير واقعي وغير زائف في الوقت نفسه بمعنى غير صحيح وليس باطلاً.. في التراث الهندي ينظر إلى الوهم الذي يعرف بـ(مايا) على أنه يزدهر مع نمو الخطيئة، فكلما كبرت الخطايا ونبتت بشكل كبير كان الوهم كثيفاً، وهنا المقصود الوهم المعوق الذي يعطل الذوات عن الإبداع والابتكار والتفوق، فـ”الخطيئة هي السماد الذي يجعل مايا تزدهر وتنمو بقوة”، كما في تراثهم.
والخطيئة هي سياق الجهل؛ لأن ارتكاب الخطأ في هذا السياق بالذات مترتب عن جهل النفوس؛ لأنها تعيش الظلمة وترفض أن تنطلق إلى النور، أو لأنها مقيدة بالعالم القديم وترفض مغادرته إلى العالم الجديد، الرحب والمشرق.
والعقل البشري قابل لتلقي الخرافة والوهم وتصديق المجهول أكثر، وتعتبر الرغبات والمخاوف من أكبر مسببات تقبل الوهم، وهي غير مرتبطة بمستوى تعليمي أو اجتماعي أو اقتصادي معين، فالوهم لا يرتبط بالخرافة التي سكنت المجتمعات القديمة فقط، إنما سرى الوهم إلى المجتمعات المتطورة بالنظريات الحديثة الجارية، فالانفتاح كان سبباً في رواج الوهم بسبب عالم التكنولوجيا والتغير السريع الذي جعل الإنسان يصدق كل شيء.
والوهم أخطر من الخطأ؛ لأنه يصعب اكتشافه نظراً لما يحققه من الرغبات الوجدانية والنفعية للإنسان.
وقد أكد نيتشه أن الوهم يتولد عن حاجة الإنسان إلى أن يوفر لنفسه حياة سلمية وأمينة؛ لأن أساس الوجود البشري يقوم على الصراع من أجل البقاء؛ إذ إن حب البقاء يدفع بالإنسان إلى استخدام العقل من أجل إنتاج الوهم؛ لأن الحقيقة قاتلة.
وتعتبر اللغة الأداة الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان في صناعة الوهم؛ لأنه من طبيعة استعارية ومجازية، هكذا يكون الوهم لصيقاً بالحياة البشرية؛ لأنه يضمن للإنسان الاستمرار والبقاء.
وبناء عليه، يرى نيتشة أن ما يعتقده الناس حقائق (المساواة، والتعاون.. إلخ) ويقدسونها، ما هي إلا أوهام تم نسيانها.
ولكن.. كيف تصنع وهماً ثم تعيشه واقعاً ملموساً وكأنك صنعت شيئاً حقيقياً يستحق الكفاح؟ ودون أن تدري ستجد نفسك تحارب وتكافح طواحين الهواء فلا شيء حقيقي ولا شيء يستحق العناء.
الدماغ عضو ماهر في خداع نفسه عند تكوين معتقدات مخالفة للواقع، وهذا ما يعرف لدى الجميع بالوهم، إنه كل ما ينتجه الإنسان من معتقدات ناتجة عن رغبته اللاشعورية في البقاء؛ حيث تقدم له الأوهام على أنها حقائق ما يكون مصدرها الأفكار، فيتم عندها اللجوء إلى الكذب لإخفاء الحقيقة تحت غلاف المنطق.
ولكي نعرف كيف يحدث ذلك عضوياً يجب أن نعرف أولاً كيف يتكون الإدراك؟ فالإدراك هو الآلية التي يتم من خلالها تكوين معنى شخصي لعمليات الاتصال التي نتعرض لها يومياً، مثل تجربة ما أو إحساس ما، تتم هذه الآلية عن طريق ثلاث خطوات لمعالجة المعلومات والمثيرات، أو المنبهات التي نحصل عليها من التجربة أو الإحساس.
هذه الخطوات الثلاث متتالية هي: الاختيار، ثم التنظيم، ثم التفسير، أي أن هناك ثلاثة عناصر لعملية إدراكنا للأشياء: (المواد المحسوسة – الحاسة – ومركز الإدراك)، عند مواجهة شيء معين تقوم الحواس بالتقاط معلومات “بصرية مثلاً” وتنقلها للإدراك لتتم معالجتها بتصنيفها وربطها بقوالب سابقة، ثم يتم اتخاذ مفهوم معين حول هذا الشيء؛ ليكون مطابقاً للواقع، بدون الإدراك تقوم الحواس بتجميع هذه المعلومات، لكن لا يمكن التعرف عليها، فعند مشاهدة وجه والدتك مثلاً ستشاهد ملامح من الأنف والعينين والشعر، لكنك لن تعرف من هي هذه المرأة.
في حالة الوهم تتخذ المعلومات المسار المعاكس فيتكون الإدراك المختلط بالخيال أولاً، وترسل هذه المعلومات عبر الحواس لتشكل الشيء حسب توقعاتنا المسبقة وتعطيه صبغة توافق رغباتنا، والوهم يتناسب مع المعرفة ونموها تناسباً عكسياً؛ حيث يقل الأثر في سيطرة الأوهام المضللة كلما ارتفع الوعي متجاوزاً الارتهان للحظة والتاريخ.
حين نشاهد فيلماً من أفلام الكاوبوي تقوم حفنة من الأميركيين على الشاشة بقتل جحافل الهنود الحمر فيتساقط هؤلاء بالعشرات والمئات، وهم يطلقون صرخات وحشية وكأنهم ليسوا بشراً، وكأنهم يرتكبون جريمة بدفاعهم عن أنفسهم وممتلكاتهم؛ ليبقوا أحياء في أرضهم، وحين يصاب “البطل” الأميركي تتوقف الصورة وتعلو الموسيقى الحزينة، وكأن نهاية العالم قد حلّت.
هكذا استخدمت الولايات المتحد هوليوود.. إنها واحدة من أكبر الوسائل الفعالة التي استخدمتها وما زالت لصناعة الوهم والخداع يعملون من خلالها على تمرير رسائلهم عبر العقل اللاواعي لخدمة مصالحهم واستراتيجياتهم، إنه التضليل الإعلامي في أبهى صوره وتجلياته، فالفن يعرض صورة مخالفة للواقع، وهذه الصورة تصل إلى الملايين من البشر.
وهؤلاء المتلقون لا يعرفون ما وقع بالفعل فتتشكل لديهم هذه الصورة الوهمية هي الواقع الفعلي لهم، “فالإعلام هو جريمة القرن العشرين”، هكذا ببساطة اختصر روبرت فيسك حالة الإعلام المعاصر، بأدواته وآلياته المختلفة.
إن الوعي المشوه هو الوعي الذي يقع ما بين وهم وسائل الإعلام والواقع، ويتكون لدى فئة من الناس التي تملك من الواقع قدراً لا بأس به، ومعرفة حاصلة من تجاربها وخبراتها، ولكنها بشكل أو بآخر تتأثر بالصورة الإعلامية، وبذلك يتكون لديهم تباين معرفي ووعي متردد، فمن هنا تأتي أهمية تحرير العقل من سلطان الوهم والخداع؛ ليصبح قادراً على التمييز بين التزييف والتشويه الإعلامي المتعمد لإدراك الواقع من حيث كونه واقعاً.
فهذا الوهم الذي نعيشه – الناتج من التضليل والتزييف الإعلامي – يستمد قوته من تخريب النظرة الأساسية للواقع، حين يتم التحكم والتلاعب بعقل المتلقي، وإقناعه بالواقع المزيف والمصطنع بقوة الضخ الإعلامي وبرؤية المتحكم في الآلة المعلوماتية، هذا ما يخبرنا به الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في أطروحته “موت الواقع”.