اسم الكاتب : علي ثويني
يعود الفضل للشيوعيين العراقيين بمقارعة الخدر الذي ألم بالعقلية العراقية إبان أزمنة الكساد الحضاري ،وإذعانها المسترسل للسلطات السياسية والإقتصادية والدينية، في زمن وضعت فيه خطوط حمراء تمنع إنتقاد الملك و الشيخ و الإمام. وبذلك حركوا سكون بحيرة المجتمع العراقي الذي كان محوجا لها لينهض من سباته .
وتأمل الناس خيرا وحلموا بالإنعتاق ولاسيما بعد الحرب الثانية من جراء الدعاية التي تلت إنتصار الروس، مما جعل نصف العراقيين ينخرطون في لواء الحركة الشيوعية في الخمسينات. وحدثت الإنتكاسة الكبرى بعد إنقلاب 8 شباط الذي فتت بنيتهم وأخترقهم بالعمق . ولم يكن إنخراطهم في السبعينات ،بحركة الجبهة إلا أملاءا “بالروموت” عاد وبالا عليهم،و قوض آخر أمل عراقي بالإنعتاق الذي دام حتى سقوط الصنم في 9 نيسان.
أخطأ الشيوعيون برغم جديتهم، وملكاتهم المثقفة ،بسبب رومانسيتهم وقلة حيلتهم. ونعزيه إلى مواقفهم الذيلية من السوفيت والكتلة الإشتراكية،وربطهم العراق بحركة عالمية ليس من ورائها طائل ،وإقحامه بالحرب الباردة التي لم يكن له فيها ناقة ولاجمل. والغلطة الثانية أنهم خذلوا سلطة الجمهورية والزعيم قاسم من خلال تخبط برسم الخطط المناسبة للداخل بسبب ماكان يملى عليهم من الخارج .و يشاع أن وصول البعثيين إلى السلطة كان من ضمن صفقة بين السوفيت والأمريكان بما أسموه (برلين-بغداد) حينما سمح الأمريكان ببرلين مقابل تسليم السوفييت لبغداد .وخسارتنا كانت بنوع الأرواح العراقية من الشيوعيين التي أزهقها البعثيون ،والتي كانت يمكن أن تشكل أكبر مشروع نهضوي لبلد مثل العراق. وتكرر الخطأ في صفقة الجبهة الوطنية ، التي أدت إلى تشتتهم ،واليوم يحاولوا تداركها، وإعادة بناء مجد الأيام الخوالي بالرغم من أن الأمور قد تبدلت والشيوعية أبتذلت ومسخت في عقر دارها . ومازال الرعيل القديم من الشيوعيين يأمل أن يحاط الرفيق منهم بهالة من القداسة والقدوة.وما يهمنا ونأمله منهم إعادتهم صياغة الأمور بحسب معطيات اليوم ، لكن مازلنا نلمس جمودا “عقائديا” تجسد في أن جلهم مازال يغني النغمة القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب ،بما يوحي بتكرار الخطأ .وإذ أذكر هنا ما قاله أحد جهابذتهم في جلسة مودة أن شعار(العراق للعراقيين) عنصري محض.
نلمس النزعة الرومانسية القديمة فيما يتعلق بالقضية الكردية التي لها شجون قديمة تتعلق بتطلعات الأمة العراقية.وتبدأ القصة منذ تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في المصنع السوفيتي الذي صنع إن لم يكن تبنى الحركة الشيوعية العراقية منذ نعومة أضافرها . وفرض على الشيوعيين إملاء مناصرة الحزب الديمقراطي الكردستاني ظالما أو مظلوما. وتصاعد الحال حتى بواكير عهد الجمهورية ،التي أحدثت الشرخ حينما تحالف الديمقراطي مع البعثيين بمباركة وغطاء ناصري صريح ودعم من شركات النفط وأمراء الخليج وإسرائيل وسفارات الغرب. و اقتضت خطتهم أن يثور الملا مصطفى عام 1961 ليشغل الجيش العراقي ،وبذلك يكشف ظهر سلطة الزعيم، ليترك الطريق مفتوحا، وينقلب عليه البعثيين، مقابل الحكم الذاتي. بينما مكث الشيوعيون ملتزمين بخطهم التقليدي، ولم يعوا اللعبة فسالت منهم أغلى دماء عراقية خلال وبعد إنقلاب 8 شباط 1963.
وعندما حدث إتفاق الجبهة كان البرزاني يستثمر لعبه على الحبلين ،فهو صديق قديم للشيوعيين وجديد للعروبيين. ووقف الشيوعيين بصف البعثيين ،وحدثت مجاز لعناصرهم ،نتذكرمنها حادث الطلبة العائدين من الأتحاد السوفييتي. وحينما انقطعت سبل المودة مع سلطة البعث، لجأ الشيوعيين للأكراد في حرب الأنصار التي كانت خسارة من كل النواحي، ولم تخلوا من النزق كونها محرقة للجنود العراقيين(أولاد الخايبه) أو الشيوعيين ممن يراد التخلص منهم و(التفرد) والقصة معروفة.والأهم أنها لم تؤثر على سطوة السلطة المركزية ،بقدر ما ألزمت الشيوعيين بدين وعرفان للقوى القومية الكردية مازال الشيوعيين يشعرون بسطوته على تفكيرهم وخططهم.
ومن الجدير ذكره هنا بعض الملابسات اللا أخلاقية قد حدثت حينما نكل القوميين الأكراد بالشيوعيين العرب تحديدا دون الأكراد و وشي بالبعض أو سلم بعضهم وأمسى من حصة المقابر الجماعية. ومن الطريف أن الأكراد والشيوعيين مارسوا خطف الأجانب خلال تلك الثورة السقيمة. ويحكي لنا أحد الأخوة أنهم أمسكوا بمواطن مصري وحبسوه في أوكارهم وطالبوا بفدية أو تحرير أسراهم،وكان المسكين لايلوي على شئ فقيرا ولايريد أحد أن يسأل عنه، وكان دائم الجوع يستهلك من طعام الثوار الكثير ويطلب المزيد ،حتى سأموا منه وأطلقوا سراحه بعد أن ضاقوا به ذرعا.
ونجد اليوم من الحرس الشيوعي القديم ولاسيما ممن يرتع في الماضي ويأمن (بحق تقرير المصير) للشعوب و يريد أن يطبقه على القضية الكردية التي هي قضية عراقية داخلية بحته ولا تنطبق في رأينا على أخوتنا الأكراد. فهي تخص تحديدا من يتحرر من الاستعمار أو الاحتلال الخارجي مثل تيمور الشرقية أو الصحراء الغربية ، مع رصدنا بأن الدنيا قد تغيرت وحدث تململ وزوغان كبير في ذلك المبدأ الذي أمسى مهلهلا . ونضرب بهذا السياق المثل بتأييد الحركة الشيوعية ومنها العراقية في الثمانينات بتسفير مليون تركي بلغاري، وأعتبروه حق مشروع يمارس ضد دخلاء على بلغاريا، دون أن يقروا بحق تقرير المصير لهم،مثلما هم يردحون اليوم. ولا أعلم أن أطلع الأخوة الشيوعيين على أن جل الدول تتكون من فسيفساءات سكانية فهاهم بربر المغرب العربي وأقباط مصر ونحل سوريا ولبنان ،و خمسة قوميات متكافئة تقسم المجتمع العماني (عربي وزنجباري ولواتي وبلوشي وسبأي) .وعروجا على إيران وباكستان وأفغانستان وماليزيا ،وحتى الدول الأوربية والأمريكية مثل دول البلقان ففي رومانيا مثلا تجمعات سكانية ( هنكارية وألمانية وغجرية وصربية وتترية وتركية وسلافية صربية وأوكرانية وبولونيه) التي تشكل بمجموعها أكثر من نصف سكان البلاد،وأن الهنكار ومنطقة (ترانسلفانيا) هنكارية شعبا وأرضا، ولكن لم يقر أحد منهم أو من شيوعيينا مبدأ تقرير المصير لهم،وهي دول تأسست بعد الحرب الأولى مثل العراق. والحال عينه ينطبق على كيوبيك في كندا وكورسيكا في فرنسا والباسك في فرنسا وإسبانيا،وهلم جرا.
ما أريد أن أقوله بعد تلك المقدمة والعتب الأخوي للشيوعيين الكرام بأن ينتبهوا إلى أن لا ينزلقوا برومانسيتهم ومثاليتهم المعهودة إلى هفوة جديدة لا أظن بأنهم راغين بها ولا يريدون أن يكرروها مثلما حدث في السابق، وأن لايتحمسوا لأمر ينأى عن الواقعية كونه لاينطبق على الواقع العراقي.وهنا لدي خمسة ملاحظات جديرة بالعناية:
1. ما يذهب إليه الشيوعيون يأجج النعرة القديمة التي أخطأوا بها ،ونقصد أحداث الموصل وكركوك في العهد الجمهوري ،حينما أخترقت صفوفهم مآرب القومجية الأكراد ،وتسنى لهم بأسم الشيوعيين أن يذبحوا العرب والتركمان لأسباب عرقية بعيدا عن الأيديولوجية الشيوعية . واليوم يتحملون المسؤولية التاريخية التي لو حدث “لاسامح الله “أي حرب أهليه يأججها برزاني وعصابته مثلا،و الذي نسمعه يدق طبولها ،فأن بيانات وحجج الشيوعيين ستكون قنطرة تعبر عليها مسوغات القوميين الأكراد. وحينئذ تحل اللعنة على الجميع .
2. أن يتخلوا عن الخط الإملائي القديم التي تكرسة مواقف متشنجة مسبقة تعود للستالينية المقيته ،إقتفاءا بالمبدأ الشمولي الذي يروم تسيير الناس برغبات مأدلجة ،تأتي بكوارث كما حدث تكرارا ومارسوه هم أنفسهم وأوصلونا إلى ما نحن عليه. وخلافه نرجوهم الاستماع إلى صوت “الجماهير” التي يأمنون بسطوتها، دون إملاءات منهم بل دع الجماهير تملي عليهم خططهم وتوجهاتهم ،وهذا يعني وجوب سماع رأي الناس والنطق به وليس العكس ،وهي الواقعية بعينها التي يحتاجون لها اليوم وغدا. وما نلمسه اليوم هو أن العراقيين لايأمنون بتقرير المصير للمنطقة الشمالية أو الفدرالية القومية ، والشيوعيون يتبنوها بما يشبه الفوقية المعهودة التي تريد أن تصور أنهم أعرف بمصلحة الناس أكثر منهم.
3. يعلم الشيوعيون أن أي نزعة إنفصالية في رقعة عراقية تؤدي إلى تفتت البلد،فهاهم أهل الجنوب ينتظرون بمؤازرة وإنتظار إيراني لإبتلاع الجنوب من خلالهم وقد بدأت بوادرها في البصرة تظهر للعيان. وهاهم التركمان يريدون كعكتهم بمؤازة ستكون تركية حتما، وهي تنتظرها بفارغ الصبر.. ويعلم الشيوعيون أن حقبة التكتلات القومية قد ولت وأن العالم آت على التجمعات المصالحية المتصالحة بكل شئ، وهذا هو مشروع اليورو الذي يؤكد على ذلك. فبالوقت الذي أنفصل الجيك عن السلوفاك وهم دولتان من الأساس، وليس ضمن الدولة الواحدة كما في العراق لكنهم عادوا وتجمعوا في الوحدة الأوربية، وهذا يعني أنهم لم يعوا حركة التاريخ التي أتمنى أن نعيها جميعا من يسار وقوى دينية وقومية، و الكردية تحديدا التي مازالت تشتر على مخلفات ماض ولى وقضى ، بعد أن نفق المشروع القومي العربي إلى مزبلة التاريخ.
4. يمكن أن يكون الرجوع للإنتخابات وسماع رأي الشعب هو المخرج الأمثل للإحراج والإلتزام الذي قطعه الشيوعيون على أنفسهم أمام القوميين الأكراد أو رفاقهم في الحزب الشيوعي الكردستاني، وهو الموقف الذي يتبناه جل العراقيين بطبقاتهم السياسية والفكرية، كونه حكما وفيصلا واقعيا ، حينما يختلف إجتهادات الفرقاء .وليكن صندوق الإقتراع للأحزاب مثل يوم القيامة للإنسان يكرم به أو يهان. وهنا نعلن رأينا بصراحة من أن وجود حزبين شيوعيين أحدهم كردي والآخر عراقي مؤشر يثير فينا الريبة مما يحاك بالخفاء للأمة العراقية .،والتي نعتبرها من أبسط مستلزمات إنتمائهم العراقي وإيمانهم بوحدة العراق بلدا وأمة .
5. يمكن أن تحول القضية الكردية برمتها إلى الحلول الثقافية، حينما تضمن الديمقراطية حقوقهم السياسية والإقتصادية، وهو آت لامحالة من خلال آليات المراقبة والمتابعة والشفافية. وتقتصر الحلول الثقافية بضمان الحرية المطلقة للثقافة الكردية أن تنهض من خلال تكريم لغتهم وتطوير ملكاتها،من خلال التدريس ودور النشر والبحث والنشاط الثقافي. وهنا يقطع الطريق على حجج القومجية الأكراد، إلا اللهم من حاجة واحدة يلحون فيها، وهي صيانة الدماء الكردية من التلوث مع دماء الشعوب الأخرى، وهذا يجعلني أهيب بهم أن لايتزوجوا أو يزوجوا النساء من نحل أخرى كي لا تفسد دمائهم ،ويمكن إدراجها في الدستور لهم.
أملنا بشيوعيينا أن لايمارسوا الخطيئة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه ،وأن ينتبهوا للتوجهات داخل تنظيماتهم ،ولاسيما لمن يضمر غلو قومي ويظهر أممية وتسامح. ورجائنا أن يسموا فوق خلافات آنية لنزعات ومزاجيات ويمكثوا في موقع الحكم الدستوري المراقب الذي أكسبه تاريخه المديد الحكمة و الحنكة ، التي تجعله لا ينزلق ويتحيز إلى جهة دون أخرى ،ولاسيما كفة الشعب الذي يعولون على بقائهم جزء منه ومحرك له.