الكاتب : حامد العطية
ذكرتني تحذيرات رئيس الوزراء التركي من مخاطر نشوء حرب طائفية في العراق وتهديده بالتدخل لو حدث ذلك بمقال كتبته ونشرته قبل حوالي خمس سنوات بعنوان: متى ينتهي الاحتلال العثماني الاستيطاني للعراق؟ مؤخراً انتهى الاحتلال الأمريكي أو هكذا قيل، ومن المثير للاهتمام وجود قواسم مشتركة بين الاحتلالين العثماني والأمريكي، فكما أن المحتلين الأمريكيين انسحبوا من العراق وخلفوا وراءهم بقايا لا يستهان بها، أبرزها السفارة الأمريكية الماموثية وطابوراً ضخماً من المسبحين بحمدها كذلك فعل الأتراك العثمانيون وإن اختلفت اثارهم، وكان من أهداف الاحتلال الأمريكي زعزعة النسيج الاجتماعي للعراق من خلال تعميق ومأسسة الخلافات الطائفية والعرقية، وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد، أما المحتلون العثمانيون فقد سعوا إلى تغيير التركيبة الاجتماعية للعراق من خلال التوطين، وهم أيضاً نجحوا في ذلك.
انسحب الاتراك العثمانيون من العراق، تاركين وراءهم بؤراً بشرية وثقافية، عوائل ذات أصول تركية أو عثمانية لا تمت بصلة للعراق، ورجال دولة وإدارة، يتقنون اللغة التركية، ويفضلونها على العربية، ومنهم رئيس وزراء العراق المنتحر السعدون الذي كتب وصيته بالتركية، وكان بعض أفراد العائلة الهاشمية المالكة أتراكاً، والملك فيصل الثاني كان على وشك الزواج من فتاة تركية قبل مصرعه في انقلاب 1958م.
يعطي رئيس الوزراء التركي لنفسه الحق في التدخل في الشأن العراقي، ليس لأنه يعتبر نظامه نصيراً للعراقيين السنة فقط وإنما لأن كثيرين منهم ذوي أصول تركية أو عثمانية، فالاحتلال العثماني الاستيطاني للعراق لم ينتهي تماماً، ولتركيا حقوق فوق العادة في العراق، إذ يسمح لها بالدخول بعمق عشرات الكيلومترات داخل العراق لتعقب الأكراد المتمردين، وبإمكانها الوصول إلى بغداد في ظرف ساعات لو شاء قادتها، والعراق لا يمتلك السلاح المناسب لردعها عن التفكير بذلك أو صد هجومها لو حدث، كما أن الأتراك يقررون حصة العراق من الماء من دون تقيد بالأعراف الدولية والاتفاقات الثنائية، لكي نفهم كل الدوافع وراء تطاول الأتراك الوقح على السيادة العراقية علينا العودة إلى موضوع الاستيطان العثماني للعراق ومخلفاته.
كان العراق محتلاً، حتى قبل مجيء الأمريكان، ومنذ أمد غير قصير، وهؤلاء المحتلون الخفيون هم بقايا العثمانيين، فمن المؤكد بأن الاحتلال التركي العثماني كان استيطانياً، ويتضح ذلك من التغيير في التراكيب السكانية الذي أحدثه العثمانيون في البلاد الواقعة تحت سيطرتهم، وتتفاوت درجة هذه التغيير بين دولة وأخرى، وكقاعدة عامة فكلما كانت الدولة الواقعة تحت الاستعمار العثماني محاذية أو قريبة من حدود موطن العثمانيين في الأناضول كلما كان التغيير السكاني المحدث من قبلهم فيها كبيراً نسبياً، والدليل على ذلك وجود تنوع في الأصول العرقية لنسبة غير قليلة من سكان العراق ودول سوريا الكبرى، وبنسبة أقل في الحجاز ومصر، وتتمثل في هذا التنوع العرقي الشعوب التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار العثماني البغيض.
انتهى الاحتلال العثماني للعراق رسمياً باستسلام قواته للبريطانيين وانسحابهم من العراق ثم مبادرتهم لإلغاء الخلافة العثمانية، لكن استعمارهم الاستيطاني للعراق لم ينتهي حينذاك، بل هو متواصل حتى وقتنا الحاضر، والأدلة على وجود بقايا هذا الاستعمار الاستيطاني وتأثيراته السلبية المقيتة على العراق مستمدة من الكتاب الموسوم، البغداديون أخبارهم ومجالسهم من تأليف إبراهيم الدروبي، المطبوع في بغداد عام 1958م.
يتبين من الكتاب بأن بقايا العثمانيين في العراق من أصول عرقية متنوعة، أتوا إلى العراق واستوطنوا فيه باعتباره امتداداً للدولة العثمانية الواحدة، ويصف هذا التنوع كما يلي :”ترى العراق حفل بأجناس بشرية متنوعة ففيه التركي والأفغاني والكردي والقفقاسي والداغستاني والاستانبولي والارناؤطي والحجازي والشامي والمصري والمغربي والجركسي” (ص211)، ومن الواضح بأن هؤلاء جميعاً طارئون على الأرض العراقية وتركيبتها السكانية، وينتمي أغلبهم للطائفة السنية، ولولا الاستعمار العثماني لما تواجدوا بالعراق، وتجدر الإشارة إلى استعمال المؤلف لكلمة “حفل” للدلالة على أن عدد هؤلاء الغرباء في العراق لم يكن بالقليل، كما يلاحظ بأنه لم يورد الإيرانيين ضمنهم، أما لأنهم قلة قليلة لا يجدر ذكرها أو أنه أهمل ذكرهم لأسباب طائفية، وأرجح السبين كما سيتبين لاحقاً.
لا يخفي الكاتب طائفيته المقيتة، فهو لا يترك مناسبة إلا وانتقص من الفرس وأفعالهم في العراق في الوقت لذي لا يتعب من كيل المديح للعثمانيين الأتراك وبالأخص سفاحهم السلطان مراد الرابع، والدليل القوي الآخر على طائفية المؤلف ترتيبه للعائلات البغدادية فقد بدأ بالسنة ثم أتى على ذكر الشيعة وانتهى بالنصارى واليهود.
يترك الكتاب انطباعاً خاطئاً لدى قراءه من غير العارفين بحقائق التركيبة الديمغرافية للعراق بأن السنة هم الأكثرية العظمى من سكان بغداد وبأن الشيعة طائفة صغيرة، عديدها مقارب لتعداد النصارى واليهود، فقد توزعت العائلات المذكورة في كتابه وفقاً للدين والمذهب كما يلي:
السنة (79%)، الشيعة (12%)، النصارى واليهود (9%)، ولرب قائل بأن المؤلف لم يجد من العوائل الشيعية الميسورة والمعروفة أكثر من هذا العدد، وحتى لو كان ذلك صحيحاً فإنه يدل على مدى الاضطهاد والتمييز الطائفي الذي مارسه العثمانيون وأعوانهم المحليون، وما نتج عنه من حرمان أكثرية العراقيين من الشيعة من حقوقهم الأساسية وتهميشهم والتضييق عليهم في طلب الرزق.
اهتم الكاتب ببيان الأصول العرقية والإثنية لمعظم العوائل المدرجة في كتابه، وفيما يلي توزيع السنة حسب أصولهم العرقية: الأعراب والمستعربون وغالبيتهم من نجد والشام 22%،الأتراك 21%، عرب عراقيون 15%، غير محددي الأصل 32%، أكراد وتركمان 8%، هنود 1%، فرس 1%، أما الشيعة فقد كانت غالبيتهم العظمى من العرب العراقيين (93%).
يتضح من بيانات التوزيع العرقي بأن نسبة قليلة من العوائل البغدادية السنية منحدرة من أصول عرقية عربية وكردية وتركمانية مستوطنة في العراق، وإذا أخذنا في الاعتبار احتمال أن يكون معظم العوائل غير محددة الأصل وبعض النازحين من الشام من أصول تركية أو عثمانية غير عربية يمكن الاستنتاج بأن غالبية العوائل السنية المدرجة في الكتاب هم من الأتراك وغير العراقيين.
رسخت العوائل الوافدة للعراق سيطرة العثمانيين الاستعمارية على العراق واستغلالها لخيراته، احتكروا وظائف الإدارة والجيش والقضاء والوقف وغيرها من الإدارات المحلية العثمانية، ولم يستنكفوا من قبول الرشوة واستغلال المناصب، واستحوذوا على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، وتملكوا الدور والدكاكين والأراضي في العاصمة والمدن، وتحكموا بالتجارة الداخلية والخارجية، وكان لهم النصيب الأوفر من فرص التعليم .
حرص النظام الملكي الهاشمي على ترسيخ استئثار السنة بالسلطة، وكان للعوائل التركية وغيرها من بقايا العثمانيين نصيب وافر من المناصب الحكومية السياسية والعسكرية والإدارية، وهكذا بذل هؤلاء الأغراب قصارى جهدهم لمنع السكان الأصليين وبالذات الشيعة من الحصول على حقوقهم المشروعة، وحتى عندما انحسر نفوذهم في العهود الجمهورية إلى حد ما فقد ظلت طائفيتهم مهيمنة، وما الممارسات الطائفية المقيتة والمخربة لنظام البعث البائد سوى امتداد لفكر وسلوك بقايا العثمانيين والسائرين على نهجهم.
يعتبر بقايا العثمانيين العراق وشعبه وخيراته مجرد غنيمة، لذا نقل عن الطاغية المقبور صدام قوله عند استيلاء حزبه على السلطة بأنهم أتوا بالقوة ولن يتخلوا عنه إلا بالقوة، وليس هنالك أصدق وأدق من وصف المرحوم الدكتور هاشم جواد، وزير خارجية الزعيم عبد الكريم قاسم، لإنقلاب البعث في 1968م: “إنه غزوة مغولية جديدة”، وقد سمعته منه أثناء جلسة خاصة في مقهى ببيروت عندما كان مندوباً للأمم المتحدة، ولم يكن قد مضى على الإنقلاب سوى أيام معدودات، وبالفعل فقد صدق حكمه عليهم لأنهم سلكوا منهج المغول في حكم العراق بسفك الدماء والتخريب والدمار.
للتمويه على جذورهم التركية والعثمانية التي لا تمت للعراق بصلة دأب هؤلاء الغرباء على التشكيك بأصول أهل العراق من الشيعة، مدعين بأنهم فرس أو صفويون أو من الهنود الزط، وخوفاً من فقدان مراكزهم ومصالحهم الاستيطانية في بلدنا يشنون حرب إبادة على الشيعة، كما فعل أسلافهم ببعض الأقوام مثل الأرمن، ومن المعروف أن الأتراك العثمانيين قتلوا الملايين من الأرمن واغتصبوا نسائهم مما دفع بملايين آخرى منهم لترك مدنهم وقراهم والفرار إلى الدول المجاورة، ومنها العراق، وها نحن نشاهد استعمال الإرهابيين من بقايا نفايات العثمانيين وأعوانهم لنفس الأساليب الهمجية ضد الشيعة اليوم.
هنالك دعوتان همجيتان تهددان العراق وتضربانه في العمق، أولاهما الوهابية السلفية التي تريد مد سيطرتها على العراق بالقهر والإرهاب، والثانية هي بقايا العثمانية التي يترأسها أردوكان وحزبه، والذي قال عنه المرحوم أربكان، رئيس الحركة الإسلامية الأصيلة في تركيا، بأنه عميل للصهاينة، ولو اقتصر تهديد هاتين الدعوتين على الخارج لهان الأمر لكن المعضلة تكمن في وجود أعوان لهما داخل العراق، ولا بد للعراقيين من معالجة مصادر هذين التهديدين المصيريين بقوة وحزم.