ديسمبر 4, 2024
download (1)

الكاتب : ضياء الشكرجي

هناك تكرار لبعض الكتاب الشيعة – هكذا يحبون أن يعتبروا أنفسهم – عما يسمونه انسلاخ العلمانيين الذين يسمونهم شيعة عن مذهبهم وطائفتهم، بينما العلمانيون السنة كما يقولون يعتزون بانتمائهم لمذهبهم وطائفتهم.

أنا أفهم إن الإنسان يمكن أن يكون شيعيا أو سنيا في حياته الشخصية، ولكن الكارثة الكبرى على الوطن ومبدأ المواطنة والمبادئ الديمقراطية أن يتحدث الشخص كسياسي، لا كفرد، يتحدث عن شيعيته أو سنيته. السياسة تكون إما يسارية أو ليبرالية أو محافظة أو وسطية. فاعتماد فكر فلسفي أو سياسي، ليس جينات وراثية، ولا تقليدا للسائد في المحيط الاجتماعي، ولا اتباعا للآباء، ولو إن هذا هو السائد، وليس كل ما هو سائد صحيح، بل يجب أن يكون الفكر المعتمد سواءً سياسيا أو فلسفيا، يعبر عن اختيار حر للإنسان، كفرد حر يفكر ويقتنع أو لا يقتنع ويثبت عن قناعة أو يتحول عن قناعة.

فكيف يمكن للإنسان من الناحية السياسية أن يجمع بين أن يكون علمانيا من جهة، ومن جهة أخرى يكون شيعيا أو سنيا.

فالذي يتحول من قومي إلى ليبرالي، أو من إسلامي إلى علماني، أو من محافظ إلى حداثوي، لا يجب كما يتوهم البعض إنه انسلاخ، أو ضعف، أو جلد للذات، أو عقدة شعور بالنقص، أو جبن وخناثة، أو انقلاب، أو بحث عن شهرة، أو استنكاف من انتمائه للطائفة، في الوقت الذي يفتخر الآخر بهذا الانتماء، دون أن ننفي أن تنطبق هذه أو تلك الحالة على هذا أو ذاك. لكن أن تتهم كُتّابا بهذه الصفات، على نحو التعميم والإطلاق، أو تتهم واحدا منهم على وجه التحديد، مدعيا أنك ولجت إلى قلبه، وقرأت نواياه، فهذا ما لا تقبله الموضوعية، التي ينبغي أن يتحلى بها من يكتب في السياسة.

العلماني الحقيقي سياسيا – وأؤكد سياسيا – هو الذي يقف من أتباع كل الأديان والمذاهب والقوميات على مسافة واحدة، لأنه يعتمد مبدأ المواطنة حصرا في تحديد موقفه تجاه الآخرين، بما في ذلك أتباع الدين أو المذهب أو القومية مما يمثل خلفيته الاجتماعية، حتى لو لم يعد ينتمي شخصيا إلى دين أو مذهب ولم يعد يعتمد الفكر القومي، وذلك على حد سواء بين أتباع أي مما ذكر مما يمثل خلفيته الاجتماعية وغيرهم. لكن العلماني لا يفصل بين الدين والسياسة وحسب، بل يفصل في شخصه نفسه بين دوره كسياسي، وبين قناعاته الشخصية الدينية والفلسفية كإنسان وكمواطن فرد، فهو يفكر لنفسه، بل يعبر عن قناعاته كمفكر عن إيمانه بدين أو مذهب ما، أو عن إيمانه بالله دون الانتماء لدين، أو أن يكون – إذا كان مسلما – سنيا أو شيعيا أو يعتمد الإسلام اللامتمذهب، أو قد يوصله تفكيره ليكون ملحدا أو لاأدريا. فهناك علماني متدين، وهذا ما كنت عليه عام 2006، وهناك مسلم لامتمذهب، كما كنت عليه عام 2006 إلى مقطع من عام 2007، وهناك شيعي ديمقراطي غير متمذهب من الناحية السياسية، كما كنت عليه عام 2005. العلماني يدافع عن حقوق الجميع. العلماني لا يتحدث عن استحقاقات المكون، بل لا مكان في السياسة للحديث عن استحقاقات هذا أو ذاك المكون. وكل من يتكلم بهذه اللغة ينقض مبدأ المواطنة، ولو كان لدينا قوانين عصرية تؤمن بالحداثة، لجرى منع المُتَبَوِّئ للموقع السياسي إن في السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية، من مزاولة السياسة كشيعي أو كسني، ويقال له: هذا مكانه بيتك وحياتك الشخصية، وليس المنبر السياسي.

بعض الذين يشكلون على العلماني ذي الخلفية الاجتماعية الشيعية، إنه أكثر استعدادا من قرينه السني العلماني للتخلي عن طائفته ومذهبه، وأكرر هنا بأن السني المعتز بسنيته سياسيا ليس علمانيا، كما إن الشيعي المعتز بشيعيته سياسيا ليس علمانيا، فليس كل من هو ليس إسلاميا هو علماني. وإذا صح ما يذهب إليه بعض الكُتّاب الشيعة إن الطائفيين من السنة أكثر منهم من الشيعة، فأقول أيضا كان في عهد الجمهورية الأولى العروبيون من السنة أكثر منهم في الوسط الشيعي، وكان اليساريون والوطنيون والقاسميون من الشيعة أكثر منهم في الوسط السني، بالرغم من ان أيا من الاتجاهين السياسيين ليس له علاقة بالدين والمذهب. هذا يحتاج إلى دراسة تاريخية وأخرى سايكو-اجتماعية. ولكن على النحو العام أجد ربما من أسباب ذلك هو إن الإسلام السني كان دائما إسلام السلطة، والإسلام الشيعي كان غالبا إسلام المعارضة، لذا فكان الأول أكثر عنفا، والثاني أكثر بكائية، بسبب مركزية تراجيديا عاشوراء في الوعي الشيعي العام في جانبه العاطفي، دون إنكار وجود ثمة تشيع أكثر عقلانية. ثم هناك سبب آخر، هو الازدواجية التي نلمسها غالبا عند الإنسان العربي والشرقي عموما، فنجد من هنا جمع المتناقضين أو على الأقل المتضادين، أن يكون الإنسان علمانيا وشيعيا أو علمانيا وسنيا، بل كثيرا ما نجد الملحد الشيعي والملحد السني، ولا أفهم كيف يجمع المرء بين كونه لا يؤمن بالدين، بل قد لا يؤمن بالخالق، ويبقى يحمل عواطف الانتماء لهذه أو تلك الطائفة. فالعلماني إذا كان مؤمنا بالله، بل وحتى لو كان مؤمنا بدين، لكنه يفهم دينه على نحو يسمح له أن يجعله شأنا شخصيا ولا يقحمه في السياسة، فيكون علمانيا مؤمنا، لكن يبقى الإيمان والالتزام الديني ويبقى الإلحاد واللاأدرية والإيمان اللاديني شأنا شخصيا لا يقحمه في السياسة، فشخصيا كما أفصل بين الدين والسياسة، أفصل بين ضياء الشكرجي اللاديني فلسفيا، وضياء الشكرجي العلماني سياسيا. لكن الغريب إننا نجد علمانيا – أو هكذا يحسب نفسه – يبقى من الناحية السياسية لا الناحية الشخصية سنيا أو شيعيا. وهذا ما أستطيع تفسيره إلا بازدواجية الإنسان الشرقي، وعدم قدرته على التجرد عن خلفيته، حتى لو حصل له تحول فكري، ولم يعد يؤمن بالدين، أو يؤمن بالدين ولا يؤمن بوجوب اعتماد مذهب محدد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *