الكاتب : سلمان رشيد الهلالي
يتصاعد الجدل في العراق كل عام حول ثورة تموز 1958 التي اسقطت النظام الملكي واقامت الجمهورية العراقية . ويعتقد الاغلبية من العراقيون خطأ ان الرأي السياسي الذي يقولونه يستند الى الواقع الاجتماعي والاقتصادي وما افرزه من ايجابيات وسلبيات . أي ان رايه السياسي في حدث معين او شخصية محددة يخضع الى الواقع الحقيقي لهذا الحدث وتلك الشخصية , وهذا خطا جسيم فالراي السياسي يخضع للحقل السياسي , وهو منفصل عن الواقع – او يخلق واقعا لاحقا يدعم افكاره واراءه – وكما قال انجلز (افكار سيادتها) .
ان الراي السياسي يستند الى معطيات عديدة اهمها :
1 – الايديولوجيا او الافكار التي يعتقد بها الانسان سواء اكانت علمانية او دينية او طائفية .
2 – الاعلام ومايصنعه من حقيقة , او راي عام جارف لايستطيع الكثيرين الوقوف ضده (فالاعلام لاينقل حقيقة بل يصنع حقيقة) ليس من خلال الاكاذيب والتدليس فحسب , بل من خلال التاويل – أي تاويل الاحداث والحقائق والتاريخ وغيرها .
3 – المتخيل الذي تصنعه السلطات السياسية والدينية والطائفية النافذة في البلاد . والمتخيل – بحسب محمد اركون – كل شيء تشكل عبر التاريخ وقابل للاستثارة باي وقت . مثل المتخيل البعثي ضد الشيعة والاكراد والمتخيل الاسلامي ضد اليهود وغيرها . والمتخيل الفاعل عندنا بالعراق اليوم هو المتخيل البعثي الذي صنعته الانظمة القومية والطائفية الحاكمة خلال اربعين عاما (1963 – 2003) او اللاشعور القومي .
4 – الميول النفسية والتوجهات الاجتماعية والشخصية التي يحملها الفرد ضمن اللاشعور .
5 – اللاشعور السياسي : وهو مصطلح اخترعه الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه ويعني به ابراز ماهو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الاوربية المعاصرة , فيما حوره محمد عابد الجابري الى ابراز ماهو ماهو سياسي في السلوك الديني والعشائري داخل المجتمع العربي القديم والمعاصر .
فمثلا اذا اخذنا ثورة تموز 1958 او تقييم شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم , نجد ان الانسان الذي يحمل ايديولوجية او افكارا شيوعية يدعم (اوتوماتيكا) ودون تفكير تلك الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم , ومن ثم يبدأ بذكر انجازاتها من قبيل الاصلاح الزراعي وقانون الاحوال الشخصية وو وغيرها , وبالتالي فهو يعتقد خطا ان تلك الانجازات هي التي جعلته يمدح تلك الثورة , فيما ان الصحيح هو ان الفكر الشيوعي الذي يحمله هو من جعله يمدح تلك الثورة وزعيمها البار – حسب وصفهم – ثم يبدا لاحقا بذكر الانجازات لدعم رايه , (اي الافكار اولا ثم الادلة لاحقا) والدليل الاول على ذلك هو الاجماع المطلق من قبل الشيوعيين عليها (الا ماندر عند البعض في الخارج الذين اصبحوا ليبراليين) اذ لو كان التقييم موضوعيا استند الى حقائق تاريخية معينة لاصبح محل جدل ونقاش كعادة العراقيين في كل حدث . والثاني ان اي انسان يتبنى الفكر الشيوعي فيما بعد , او من سيولد بعد سنوات من الان ويصبح شيوعيا فانه سياخذ (اتوماتيكيا) بمدح الثورة .
والعكس ايضا عند الافراد الذين يدافعون عن العهد الملكي لاسباب ليبرالية وديمقراطية واجتماعية ونفسية واعلامية , فانهم يعتقدون خطأ انهم سمعوا بانجازات العهد الملكي من قبيل بناء الدولة العراقية واكمال مؤسساتها الدستورية والعسكرية والقضائية والتعلمية وانجازات مجلس الاعمار والتعددية السياسية والحزبية ونزاهة العائلة المالكة المفترضة وغيرها , ثم اخذوا بمدحه والدفاع عنه . فيما ان الصحيح هو خضوعهم للاعلام الذي اخذ بالترويج للعهود الملكية في العالم العربي اولا , او رد الفعل ضد الحكم البعثي والانظمة الجمهورية التي تميز حكمها بالثورية والانقلابات العسكرية وتسلط الاقلية الطائفية والحروب المتتالية ثانيا , او اظهار انفسهم بمظهر البرجوازيين السابقين وملاكي الاراضي والبغادة الاصليين ثالثا .
واما من يتبنى الفكر البعثي (علنا او سرا) فانه موقفه من اذكى المواقف , اذ انه سيمدح النظامين (الملكي والجمهوري) ويعتبرهما جيدان ومتميزان رغم انهم كانوا يصفون العهد الملكي سابقا بالرجعي , وهم ايضا من قتلوا عبد الكريم قاسم . وهذا المدح الذكي يرجع لسببين : الاول هو الطعن الضمني والصريح بالدولة العراقية الجديدة بعد السقوط 2003 على اعتبار ان العراق كان يعيش ازهى ايامه خلال العهدين الملكي والجمهوري وان الخراب والكارثة حصلت بعد السقوط فقط . والثاني المديح لهما باعتبار ان كلا النظامين قبل السقوط عام 2003 او ان السلطة كانت سنية وهذه شيعية , من اجل التشويه وترسيخ الدونية عند الجيل الجديد .
مانريد ان نقوله ان الراي السياسي يتبع الحقل السياسي ولايتبع الواقع المعاش , وان كلا العهدين (الملكي والجمهوري) يضمان في بنيتهما الاصلية سلبيات خطيرة لمن يريد ان ينتقدهما , وايجابيات لمن يريد ان يمدحهما . وان من ينقد العهد الملكي لانه عزز الاقطاع الذي اسسته الدولة العثمانية ابان ولاية مدحت باشا (1869 – 1872) , فان العهد الجمهوري جاء بالحرس القومي والحكم البعثي والحروب والحصار والطائفية السياسية والديكتاتورية والابادة الجماعية , فغير المعقول ان تقيم العهد الجمهوري على فترة حكم عبد الكريم قاسم التي استمرت خمس سنوات تقريبا (1958 – 1963) وتترك اربعين عاما اخرى من الحكم الجمهوري البغيض الاستبدادي (1963 – 2003) . فيما تقيم العهد الملكي على جميع سنواته بين (1921 – 1958) رغم تباينها واختلافها في التطور والاصلاح , فالعهد الملكي بالعشرينات والثلاثينات هو غيره بالخمسينات , فهناك تطور وتحول – رغم انه بطىء – في الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
وقد يعترض البعض على هذا القول بان الراي السياسي لايتبع الواقع , وانما يخضع الحقل السياسي , وان الناس تاخذ رايها السياسي من خلال الواقع الذي تعشيه – او عاشته سابقا – فاود ان اساله عن سبب مدح البعض من العراقيين لصدام حسين والحكم البعثي , رغم سلبياته وديكتاتوريته وسقوطه واجرامه عليهم , وخاصة من الشيعة المخصيين والدونية ؟؟ وقد يقول البعض ان الاعلام هو السبب بالكذب والتدليس والتضليل وغسل ادمغة الشباب الذين لم يعاصروا الحقبة البعثية الاجرامية , الا اننا نجد ان الجيل القديم الذي عاصر الحقبة البعثية ايضا يتحمل ذلك في عدم تعليم اولادهم وتربيتهم التربية السويه في رفض الاجرام والاستبداد والقمع والحكم الفردي , بل ان الكثير منهم هو من يمدح تلك الحقبة البعثية امام اولاده واهله , او يعمل على تبييض صفحتها السوداء لغايات دونية ومخصية وسياسية وشخصية , رغم انه كان من ضحاياها , سواء في تعرضه للقمع والحروب المتتالية او الحصار الاقتصادي والجوع . وهذا مصداق المثل الشعبي الذي انتشر بعد السقوط بقوة , في وصف الافراد من اهل الجنوب – او الشيعة عموما – الذين يمدحون صدام والبعث , او يبررون اعماله او يغطون على جرائمه , رغم انهم كانوا من اوائل ضحاياه (الجلب مايحب الا خناكة) .
وبالعكس , فما هو السبب في مهاجمة الدولة العراقية بعد السقوط عام 2003 ونقدها والسخرية منها رغم انها ادخلت اكثر من 70 % منهم في الطبقة الوسطى , واصبحوا برجوازيين اصلاء بعد ان كانوا صعاليك فقراء ؟؟ فالموقف الطبيعي ان هؤلاء الملايين الذين تحسنت احوالهم المادية والاجتماعية , واصبحوا من الطبقة الوسطى البرجوازية بعد ان كانوا صعاليك وفقراء وعبيد في الحكم البعثي – الصدامي , ان يمدحوا هذا النظام السياسي والدولة العراقية بعد السقوط , ويدافعوا عنه اعلاميا ضد الهجمات الطائفية والعنصرية والبعثية والخليجية التي هدفها النيل منهم اولا واخيرا , الا اننا نجد العكس , فقد اصطفوا مع تلك الحملات الاعلامية الكاذبة , وايدوها وصدقوها , واخذوا يسخرون من الدولة العراقية الوحيدة التي جعلتهم (اوادم) بالمعنى الحقيقي للكلمة , ولم يعيشوا بتاريخهم منذ السومريين مثلها , من حيث الحرية والتعددية والديمقراطية والبحبوحة والمناصب والوظائف والرواتب والسيارات والقصور والسياحة والشهادات والكماليات وغيرها . فقد عاصرت في حياتي خلال الخمسين عاما الماضية , ان اغلبية العراقيين بعامة واهل الجنوب والشيعة بخاصة , كانوا يعيشون على هامش الحياة والتاريخ والحضارة , ولم يكونوا سوى عبيد ونواب ضباط وعرفاء وفقراء عند الاقطاع من ال سعدون وغيرهم في العهد الملكي , وعند التكارتة والقوميين والبعثيين والطائفيين في العهد الجمهوري , الا انهم ورغم تحسن احوالهم واوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية , اعتبروا هذه الدولة هى اسوء دولة بالتاريخ العراقي , وسخروا منها اشد عبارات الضحك والسخرية , ورددوا جميع العبارات التي تسيىء اليها من قبيل التخوين والعمالة والتبعية وحكم العتاكة وغيرها . وهذا الموقف الغريب لايؤكد صحة قولنا السابق ان الراي السياسي لايخضع للواقع السياسي فحسب , بل يحيلنا الى صحة طريقة الحكم البعثي وخبرته في فهم سايكولوجية العراقيين . فقد ذكرت احدى الصحف الاجنبية ان صدام حسين – واثناء وجوده بالسجن – وبعد ان سمع ان الحكومة العراقية ابان حكومة الجعفري عزمت على توزيع مبلغا من المال لكل فرد عراقي ضمن البطاقة التموينية – وحصل فعلا ذلك لاول مره بالتاريخ العراقي – وكان مقداره (21) الف دينار , بالقول : ان ماتقومون به خطأ , فالعراقيين سوف لايحترمونكم او يقدرونكم , فالعراقي لايهاب الا الرئيس المتكبر والحاكم المتعجرف الذي يهينه ويفقره , وضرب لهم هذا المثل الشهير (تربي جليبك يتبعك) .
مانريد ان نقوله : ان كلا العهدين الملكي والجمهوري هما ضروريان في صيرورة التاريخ وحركته نحو الحرية , فاذا اعتمدنا منهج هيغل وجدله الشهير القائم على التناقض , فان العهد الملكي هو الاطروحة – او الاثبات – وبعده العهد الجمهوري الذي هو الطباق – او النفي – ثم اخيرا الدولة العراقية بعد 2003 فهى التركيب الجديد – او نفي النفي – وبما ان التاريخ هو نمو مفهوم الحرية – حسب قول هيغل – فان الدولة بعد 2003 هى التي جسدت مفهوم الحرية المطلق في العراق .