الكاتب : فاضل حسن شريف
تفسير الميسر: قوله عز من قائل “وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ” ﴿المائدة 66﴾ أمة اسم، أمة مقتصدة: معتدلة. وهم من أسلم منهم. ولو أنَّهم عملوا بما في التوراة والإنجيل، وبما أُنْزِل عليك أيها الرسول – وهو القرآن الكريم – لرُزِقوا من كلِّ سبيلٍ، فأنزلنا عليهم المطر، وأنبتنا لهم الثمر، وهذا جزاء الدنيا. وإنَّ مِن أهل الكتاب فريقًا معتدلا ثابتًا على الحق، وكثير منهم ساء عملُه، وضل عن سواء السبيل.
عن مركز تفسير للدراسات القرآنية للكاتب رضا زيدان: هل تطورت كلمة (أُمَّة) في القرآن الكريم؟ نقد أطروحة المستشرق مونتجمري وات حول التطور الدلالي لكلمة (أُمَّة) في القرآن الكريم: البحث الاستشراقي حول كلمة (أُمّة) في العربية وفي القرآن الكريم: لقد اشتقّ أهل اللغة كلمة (أُمّة) من الجذر (أ م م)، والمعاني التي تذكرها المعاجم العربية الأساسية ثمانية، يقول أبو بكر الأنباري: (الأمة تنقسم في كلام العرب على ثمانية أقسام: 1- تكَون الأُمّة: الجماعة، كما قال الله عز وجل: “وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ” (القصص 23)، معناه: وجد عليه جماعة. 2- وتكون الأمّة: أتباع الأنبياء، كما تقول: نحن من أمّة محمد، أيْ: من أتباعه على دينه. 3- وتكون الأمّة: الدِّين، كما قال -عز وجل-: “إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ” (الزخرف: 22)، معناه: على دِينٍ. قال النابغة: حلفتُ فلم أترُكْ لنفسِكَ رِيبةً * وهل يأثَمَنْ ذو أُمَّةٍ وهو طائعُ. 4- وتكون الأمّة: الرجل الصالح الذي يؤتَـمُّ به، كما قال -عز وجل-: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا” (النحل 120). 5- وتكون الأمّة: الزمان، كما قال: “وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ” (يوسف 45)، وكما قال: “وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ” (هود 8)، وقرأ ابن عباس: “وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ” (يوسف 45)، أي: بعد نسيان. 6- وتكون الأمّة: القَامَة، يقال: فلان حَسَن الأُمّةِ، أي: حَسَن القامَةِ. قال الشاعر: وإنَّ معاويةَ الأكرَمِينَ * حِسانُ الوجوهِ طوالُ الأُمَم 7- وتكون الأمّة: الأُمّ، قال أبو بكر: قال الفراء: يقال: هذه أُمَّةُ فلانٍ، أي: أُمُّ فلان. وأنشد: تَقَبَّلْتَهَا من أُمَّة لك طالما.. تُنُوزعَ في الأسواقِ عنها خِمارُها. 8- ويكون الأمّة: المنفرد بالدِّين، وقد مضى تفسيره. والإِمَّة، بكسر الألِف: النعمة، قرأ مجاهد وعمر بن عبد العزيز: “إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى إِمَّةٍ” (الزخرف 22)، معناه: على نِعمة).
وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله عز من قائل “وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ” ﴿المائدة 66﴾ “مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ”. الضمير في منهم يعود إلى أهل الكتاب المذكورين في الآية صراحة، وهم اليهود والنصارى، والمراد بالأمة الجماعة، ومعنى مقتصدة معتدلة، والذين أطلق اللَّه عليهم وصف الاعتدال هم من اعتنق الإسلام من اليهود والنصارى بعد أن ظهرت لهم دلائل الحق، وبينات الصدق. وقد ذكر أهل التاريخ والسير أسماء كثيرة لمن أسلم من أهل الكتاب، أما الذين أصروا على الكفر بعد أن استبان لهم الحق فهم المقصودون بقوله تعالى: “وكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ”.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله عز من قائل “وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ” ﴿المائدة 66﴾ وبديهي أنّ المراد من إقامة التّوراة والإنجيل هو اتّباعهم لما بقي من التّوراة والإنجيل الحقيقيين في أيديهم في ذلك العصر، ولا يعني اتّباع ما حرّف منهما والذي يمكن معرفته من خلال القرائن. والمراد بجملة “ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ” هو كل الكتب السماوية والأحكام الإلهية، لأنّ هذه الجملة يفهم منها الإطلاق، وهي في الحقيقة إشارة إلى النهي عن خلط العصبيات القومية بالوسائل الدينية الإلهية، فليس المهم كون هذا الكتاب عربيا أو ذلك الكتاب يهوديا، بل المهم هو الأحكام الإلهية الواردة فيهما وفي كل الكتب السماوية، أي أنّ القرآن أراد أن يطفئ ـ ما أمكنه ذلك ـ نار العصبية القومية عند هؤلاء، ويمهد السبيل إلى التغلغل في أعماق نفوسهم وقلوبهم، لذلك فالضمائر الواردة في هذه الآية تعود إلى أهل الكتاب وهي: (إليهم، من ربّهم، من فوقهم، ومن تحت أرجلهم) وما ذلك إلّا لكي يترك هؤلاء عنادهم وصلفهم، ولكي لا يتصوروا أنّ الخضوع والاستسلام أمام القرآن يعني استسلام اليهود للعرب، بل هو استسلام وخضوع لربّهم العظيم. ولا شك أنّ المراد بإقامة التّوراة والإنجيل هو العمل بالمبادئ السماوية الواردة فيهما، لأنّ جميع المبادئ والتعاليم كما أسلفنا سابقا ـ التي جاء بها الأنبياء أينما كانوا ـ واحدة لا فرق بينها غير الفرق بين الكامل والأكمل، ولا يتنافى هذا مع النسخ الذي ورد في بعض الأحكام الواردة في الشريعة اللاحقة لأحكام وردت في شريعة سابقة. ومجمل القول هو أن الآية الأخيرة تؤكّد مرّة أخرى هذا المبدأ الأساسي القائل بأن اتباع التعاليم السماوية التي جاء بها الأنبياء، ليس لأعمار الحياة الآخرة التي تأتي بعد الموت فحسب، بل أنّ لها أيضا انعكاسات واسعة على الحياة الدنيوية المادية للإنسان، فهي تقوي الجماعات وتعزز صفوفها وتكثف طاقاتها، وتغدق عليها النعيم وتضاعف إمكانياتها وتضمن لها الحياة السعيدة المقترنة بالأمن والاستقرار. ولو ألقينا نظرة على الثروات الطائلة والطاقات البشرية الهائلة التي تهدر اليوم في عالم الإنسان نتيجة للانحراف عن هذه التعاليم، وفي صنع وتكديس أسلحة فتّاكة، وفي صراعات لا مبرر لها ومساع هدامة لرأينا أن ذلك كله دليل حيّ على هذه الحقيقة، حيث أنّ الثروات التي تستخدم لإشاعة الدمار في هذا العالم ـ إذا أمعنا النظر جيدا ـ إن لم تكن أكثر حجما من الثروات التي تنفق في سبيل البناء، فهي ليست بأقلّ منها. إنّ العقول المفكرة التي تسعى وتعمل جاهدة ـ اليوم ـ لإكمال وتوسيع إنتاج الأسلحة الحربية، ولتوسيع بقعة النزاعات الاستعمارية، إنّما تشكل جزءا مهما من الطاقات البشرية الخلاقة التي طالما احتاجها المجتمع البشري لرفع احتياجاته، وكم سيصبح وجه الدنيا جميلا وجذابا لو كانت كل هذه الطاقات تستغل في سبيل الإعمار؟ وجدير بالانتباه هنا ـ أيضا ـ إلى أن عبارتي “مِنْ فَوْقِهِمْ” و “مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ” الواردتان في الآية الأخيرة، معناهما أن نعم السماء والأرض ستغمر هؤلاء المؤمنين، ما يحتمل أن تكونا كناية عن النعم بصورة عامّة كما ورد في الآثار الأدبية العربية وغيرها قولهم: (إنّ فلانا غرق في النعمة من قمة رأسه حتى أخمص قدمه). كما أنّ هذه الآية تعد جوابا على أحد أقوال اليهود الذي ورد ذكره في الآيات السابقة، حيث تؤكّد أنّ سبب انقطاع نعم الله عنهم، ليس هو ما زعموه من أن ذات الله المقدسة المنزهة قد شابها البخل (والعياذ بالله) أو أن يده أصبحت مغلولة، بل لأنّ أعمالهم الخبيثة قد انعكست آثارها في حياتهم المادية والمعنوية فسودتهما، فإن لم يتوبوا لن ينقذهم الله من آثار هذه الأعمال. وفي الختام تشير الآية الكريمة إلى الأقلية الصالحة من أهل الكتاب الذين اختاروا طريق الاعتدال في حياتهم خلافا لنهج الأغلبية المنحرفة، فعزل الله حسابهم عن حساب هذه الأكثرية الضالة، حيث تقول الآية: “مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ”. وقد وردت عبارات مشابهة عن الأقلية الصالحة من أهل الكتاب، في الآيتين (159 و 181) من سورة الأعراف، والآية (75) من سورة آل عمران.
عن المركز الاسترتيجي للدراسات الاسلامية التحديد المفاهيمي لمصطلحيّ الأمّة والمُواطَنة للسيد صادق عباس الموسوي: الأمّـة على أساس الوطن هذا أضيقُ مدلولٍ لمصطلحِ الأُمَّـة، حيث قُسِّمت الأُمَّـة الإسلاميِّة إلى أُمَم تركيَّة وفارسيَّة وعربيَّة، وهذه بدورها قُسِّمت إلى أوطان، يُطلَق على كلِّ وطن أُمَّة. لكن على رغمِ وجودِ مدلولٍ كهذا، لكنّهُ بقيَ في إطارِه الضيِّّق خاصّة القانوني منه، حيثُ يُعرِّف القانون الدولي الأُمَّـة بأنَّها مجموعةٌ من الناس يمارِسون حُكماً ذاتياً داخلَ إقليمٍ محدَّد باعترافِ أُمَم أخرى من خلال تبادل السفراء فيما بينهم، حيث إنَّ منحة المُواطَنة أي الجنسيَّة هي التي تجعلُ من الفرد عضواً من الأُمَّـة، فحقُّ الانتماء إلى الأُمَّـة قد يكون أصيلاً، كما لو وُلد في بلدٍ معيّن، وقد يكون مُكتَسباً إذا مُنحَ حقُّ المُواطَنة بسبب ولادته أو زواجه أو طول مدَّة سكنه… وقد أشار إلى ذلك (ساطع الحصري( (1968م) في مُصنَّّفه (آراء وأحاديث في القوميَّة العربيَّة) حيث يذكرُ بأنَّ مواطني الدُوَل العربيَّة مُنقسِمون من ناحية الآراء إلى ثلاث زُمَر، الفريقِ الثاني منهم يتمسَّك بالإقليميّة الناتجة عن تعدُّّد الدُوَل ويعتبر (أهالي كلِّ دولة من الدُوَل العربية أُمَّة قائمة بذاتها ومتمّيزة عن غيرها، فيقول بوجوب بقاءِ هذه الدُوَل منفصِلة بعضها عن بعض إنفصالاً تامّاً، في الحال وفي الإستقبال). وقد برز إشعاع هذا المصطلح خاصّةً في فترة النضال للإستقلال الذي سعَت إليه الدُوَل العربيّة، حيثُ برزَت الكتابات عن الأُمَّـة الجزائريّة والأُمَّـة السوريّة والأُمَّـة المصريّة. يقول (أنطوان سعادة ـ مُؤسِّس الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ): (الأُمَّـة السوريّة هي وحدة الشعب السوريّ المتولِّدة من تاريخٍ طويلٍ يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخيّ الجليّ). وقد عنى (سعادة) بالأُمَّـة السوريّة سوريا الطبيعيَّة، أي بلاد الشام التي تضُّم سوريا ولبنان. ويُعطي هذا المعنى الضيّق لهذا المفهوم (عبد الحميد بن باديس) (1940م) في حديثه عن الجزائر وفي معرض تشييد الحدود الثقافيّة مع فرنسا، فالأُمَّـة الجزائرية الإسلاميِّة ليست هي فرنسا، ولا يُمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أُمَّةٌ بعيدةٌ عن فرنسا كلُّ البعد في لُغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن مُحدَّد معيّن هو الوطن الجزائريّ بحدوده الحاليّة المعروفة. وتبرز في هذا الإطار مِصر التي شهدت مخاض تطبيق المصطلح عليه بشكلٍ أسبق عن غيرها كونها تميَّّزت عن السلطنة العثمانيّة بوقتٍ مُبكر، يُمكن الاسترشاد إلى ذلك بنصوص المفكِّرين المصريين (كقاسم أمين) و (مصطفى لطفي المنفلوطي (1924م) الذي يجعل مصر أُمَّة ضمن الأُمَّـة الإسلاميِّة مُتجاهلاً الأُمَّـة على أساس اللُّغة، فالأُمَّـة المصريّة (أُمَّةٌ مسلمةٌ شرقيةٌ فيجب أن يبقى لها دينها ومشرقِّيتها ما جرى نيلُها في أرضها، وذهبت أهرامها في سمائها، حتى تُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات).