ديسمبر 3, 2024
462561986_992839342678002_6986279607386444303_n

الكاتب : جمال الناصري

بعد مرور ساعة ، انتهت الزيارة . واعلن الحارس الشرطي ، ان يعود النزلاء الى اقسامهم وان يودعوا ذويهم كي ينصرفوا الى بيوتهم .

كان موقفا رهيبا، لا احد قد شعر به من قبل ..

بعد مرور اكثر من اسبوعين حتى اكتملت الزيارات المعنونة لسكان العاصمة بغداد، جاء دور المحافظات ، وهي تشمل محافظات الجنوب و الوسط وبعض مناطق الشمال .

حتى جاء موعدي !

في تلك الليلة لم اذق النوم اطلاقا.

من سأقابل غدا ؟

من بقي من أهلي حيا الى الآن؟

من مات منهم؟

غدا سأعرف وربما لا اعرف !

مرت ساعات الليل طويلة وانا بأنتظار الصبح على صفيح ساخن !

و جاء الصباح كعادته لم يتأخر عن موعده.

نودي بأسمي كاملا، فأرتجفت أعضاء جسدي  واهتز قلبي !

وانا اصيح ردا على المنادي .

-نعم ، نعم ، نعم .

-هيا أخرج بسرعة ؟

لست انا الوحيد الذي نودي عليه، كان معي مجموعة أخرى من النزلاء،  لاشعوريا وجدت نفسي في ارض الجملون، افترشت بطانية وجلست انتظر بلهفة.

كنت اتفحص الوجوه التي تدخل وتسأل عن ابنائها،  وفؤادي صار يخفق ويدق كالمهباش .

دخلت عائلة، ومن ثم اخرى ، وثالثة ، ومازالت متسمرا في مكاني، وعيوني شاخصة نحو الباب،  حتى صرت لا استطيع ان ارى الوجوه بدقة، فأصابني غواش بسبب الأرتباك ، وكانت كل فرائصي ترتعد!

يا ألهي ، ماهذا الموقف بحق السماء ، ساعدني ؟

كنت اخاطب نفسي، واخشى الا يأتي احد لزيارتي هذا اليوم.

كنت أقرأ ادعية وتسابيح حفظتها على ظهر قلبي طوال مكوثي في ذلك السجن المغلق الأبواب!

وفي لحظة خاطفة، شاهدت فيها رجلا بلباسه العربي يدخل الى الجملون،  تزغللت عيناي وانا احدق به واقول مع نفسي.

-اهذا هو أبي ؟

لا انه لايشبه ابي، هذا رجل كبير في السن، وابي تركته كهلا، مازال قويا ، و وجهه ينبض بالحياة، هذا شخص آخر، لايستطيع ان يرى الأشياء بسهولة، و وجهه عليه اقواس الشيخوخة !

في الأثناء سمعته يسأل  احد النزلاء:

-هل تعرفون جمال ؟

– نعم، هل انت والده ؟

-نعم، ولكن اين هو؟

أشار أليه نحو مكاني، فأتجهت صوب ناحيته، اجر خطاي دون ان اعرف نفسي، احتضنته واحتضنني، فأجهشنا  بالبكاء !

كان معه  شقيقي وشقيقتي، وكلاهما قد ضرب الدهر بسياطه،  وظهرت عليهما آثار التعب و الفراق، فتجمعنا سوية في حفلة نحيب و طوفان من الدموع!

بعد ان اخذنا فصلا في البكاء،  لا ادري كيف أبتدأ الحديث ، وأي حديث يناسب تلك المواقف الرهيبة، كانت اسئلة مبعثرة من هنا وهناك، سألوني حول اوضاع السجن وكيف هي الحياة فيها، كان السؤال كبيرا بحجم الألم ، لم استطع الأجابة عليه، كان يقولون انهم عاشوا قلقا وخوفا ، ولم يبق مكان لم يطرقوه في السؤال عني!

تحدث ابي بهمس شديد، قال:

اننا عرفنا بأنك محكوم بالسجن المؤبد من خلال احد كان معك وخرج بعد ان حكم مدة قصيرة.

من هو ؟

عسكري من اهالي سوق الشيوخ اسمه عطية صالح هزاع .

وهنا توقفت عند ذلك الأسم، السيد عطية الذي كان معي في سجن رقم واحد ثم حكم  سبع سنوات في الاقسام المفتوحة، وبعد خروجه بعفو  عام، سمعت انه التحق مع مجاميع قتالية في مناطق الأهوار  حتى انقطع أثره!

كان عطية رجلا شجاعا، و كريم النفس طيبا  ومجاهدا !

دار بيننا حديث حول اخبار المنطقة والعائلة والناس الذين توفوا فيها و اخبار الأحياء فيها ، مرت ساعة من الوقت او أقل من ذلك مرورا سريعا كوميض برق خاطف،  جاء الشرطي ليفض لقاءنا بلهجة آمرة .

زيارتكم انتهت، يا الله كل واحد يذهب لمكانه !

كانت لحظة الوداع تلك كرصاصة أصابتني، وتمنيت ان اذهب مع اهلي ولو جثة هامدة، لا اريد العودة الى السجن، انه الموت الزؤام،  كيف لي ان اعود الى نفس الضيق ونفس المكان،  واتصبح بوجوه الجلادين واعاشر نفوسا متعبة ، انهكها السجن والعذاب، انهم مثلي يعيشون حياة بائسة كما انا اعيش .

يا ألهي لا اريد البقاء هنا، اخرجني معهم  حيا او ميتا !

غادر ابي وشقيقي وشقيقتي المكان، كنت اشعر ان روحي قد انسلخت عن جسدي وخرجت معهم ، عدت الى مكاني في القاف جسدا بلا روح، حملت معي اشياء جاءوا بها من امتعة وطعام ، دخلت الغرفة، أنكفأت في زاوية منها، تجمع حولي عدد من النزلاء، كانوا يباركون لي ويقدمون التهاني وتقدموا ببعض السؤال :

الحمدلله على السلامة ، ان شاء الله زينيين ، من جاء لزيارتك؟

الله يسلمكم يا اخوان ، الحمدلله على اية حال .

لم اشعر بشيء من حولي وسط الفرح والضجيج،  تمسني  حالة اشبه بالغيبوبة  يغمرها أكتئاب، لم استطع العودة الى وضعي الأصلي حتى اليوم التالي ، وكأنني كنت في حلم عميق!

(مازلنا  نكتب عن السجن الذي ليس له نظير في سجون العالم ابدا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *