الكاتب : محمد قيس
—————————————
في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي بشكل غير مسبوق، أصبح الذكاء الاصطناعي واحداً من أبرز الأدوات القادرة على إحداث تغييرات جذرية في طريقة إدارة الدول واقتصاداتها، بل وحتى شكل الحياة اليومية للمجتمعات. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد مفهوم نظري يتداول في أروقة الجامعات، بل أصبح واقعًا عمليًا تبنى عليه استراتيجيات الدول الكبرى وتتغير بفضله ملامح السياسة والاقتصاد والتعليم والخدمات. وفي العراق، بلد الحضارات الغني بالثروات البشرية والطبيعية، تبرز الحاجة إلى هذه الثورة التكنولوجية ليس كخيار ترفيهي أو تقني، بل كضرورة مصيرية في ظل التحديات الكبرى التي يعاني منها البلد منذ عقود، وعلى رأسها الفساد الإداري والمالي، والبطء في النمو الاقتصادي، وضعف جودة الخدمات، وغياب الشفافية، والترهل المؤسساتي. إن الفساد الذي استنزف موارد الدولة العراقية لسنوات طويلة لم يكن فقط نتيجة لممارسات فردية، بل نتاج لغياب منظومات مراقبة حقيقية تعتمد على مؤشرات وتحليلات دقيقة. وهنا تتجلى أهمية الذكاء الاصطناعي، إذ يمكن توظيفه في بناء أنظمة رقابية ذكية تعتمد على تحليل البيانات الحكومية واكتشاف الأنماط المشبوهة، وتحديد مكامن الهدر والتلاعب قبل أن تتحول إلى فضائح مالية. فالتعلم الآلي يمكن أن يتولى تحليل آلاف السجلات المرتبطة بالعقود، والمشتريات، والرواتب، والإيرادات، ويقارنها بمعايير معيارية لكشف التلاعب أو الازدواج في البيانات. هذا النوع من المراقبة الرقمية لا ينام، ولا يتأثر بالعلاقات الشخصية أو الضغوط السياسية، مما يمنح الجهات الرقابية سلاحاً دقيقاً وفعالاً في مكافحة الفساد بشكل فوري ودون تأخير. وعلى الصعيد الاقتصادي، يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة ذهبية لإعادة إحياء القطاعات الرئيسية. ففي الزراعة، يمكن استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتحليل التربة وتوقع جودة المحصول، وتحديد الأوقات المثلى للري والحصاد، ما يقلل من الهدر ويزيد الإنتاجية. وفي الصناعة، تسهم الأتمتة الذكية والتحكم الرقمي في تطوير خطوط الإنتاج وتقليل التكاليف التشغيلية، ما يساعد في جعل المنتج العراقي أكثر تنافسية. وفي القطاع المالي، يمكن للأنظمة الذكية تقديم تصورات دقيقة للأسواق المالية، وتحليل سلوك المستهلكين، وكشف محاولات الاحتيال المالي بسرعة وكفاءة عالية. الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على القطاعات الاقتصادية والخدمية فقط، بل يمتد تأثيره ليشمل منظومة التعليم والصحة والحوكمة الرقمية. في التعليم، يمكن تطوير منصات تعليم ذكية تقدم محتوى مخصص لكل طالب بناءً على مستواه الأكاديمي، وتسهم في سد الفجوات المعرفية بين المدن والأرياف. أما في القطاع الصحي، فيمكن للأنظمة الذكية تشخيص الأمراض بدقة عالية بناءً على تحليل الصور الإشعاعية أو الفحوصات المختبرية، ما يقلل من أخطاء التشخيص ويخفف الضغط على الكوادر الطبية. وحتى في إدارة المرور والنقل، يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين تخطيط المدن وتنظيم حركة السير، مما يحد من الازدحامات والحوادث. لإدخال الذكاء الاصطناعي إلى العراق بشكل فعّال ومستدام، يجب أولاً الاعتراف به كجزء من استراتيجية وطنية شاملة للتحول الرقمي، وليس كحل جزئي أو مؤقت. ويتطلب هذا الأمر سلسلة من الخطوات الجادة. أولاً، الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، من خلال تحسين خدمات الإنترنت، وتوسيع نطاق الاتصال في جميع المحافظات، وإنشاء مراكز بيانات متقدمة. ثانياً، إطلاق برامج تعليمية وأكاديمية متخصصة في الذكاء الاصطناعي داخل الجامعات العراقية، بالتعاون مع مؤسسات دولية مرموقة، وتدريب كوادر شبابية قادرة على تصميم وبناء أنظمة ذكية محلية تراعي خصوصيات المجتمع العراقي. ثالثًا، سن قوانين وتشريعات تضمن الاستخدام الأخلاقي للتكنولوجيا، وتحفظ خصوصية الأفراد وتمنع إساءة استخدامها. رابعًا، تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتحفيز رواد الأعمال والمبرمجين على ابتكار حلول محلية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في حل مشكلات البلاد اليومية. الذكاء الاصطناعي لا يُمثّل رفاهية أو تقنية مستقبلية بعيدة، بل هو الواقع الجديد الذي يفرض نفسه على كل دولة تطمح للنهوض من أزماتها. وفي حالة العراق، فإن الاستفادة من هذه الثورة التكنولوجية قد تكون العامل الفارق بين البقاء في دائرة الفوضى والتخلف، أو القفز نحو دولة حديثة، شفافة، واقتصادها قوي ومتنوع. الذكاء الاصطناعي هو عقل العصر، ومن يملكه يملك مفاتيح المستقبل.
العراق في عصر الذكاء الاصطناعي: نحو دولة رقمية خالية من الفساد