رياض سعد
في قلب كل شعور بالضياع، هناك سردية خفية تشوه صورة الذات وتُرَبّي فينا شعوراً داخلياً بالدونية، يجعلنا نحمل نظارات قاتمة نرى من خلالها أنفسنا مجرّد ظلال باهتة في مشهد الحياة… ؛ فالشخص الذي يشعر بالضياع، غالباً ما يكون أسيراً لتصور مشوَّه عن ذاته، تصورٌ تشكّل بفعل تجارب مؤلمة، أو رسائل سلبية من المحيط، أو عبر مقارنة مجحفة بالآخرين.
هذا التشويه لا يأتي دفعة واحدة، بل يتسلّل إلينا على هيئة شكوك متكررة : “لست جيداً بما يكفي”، “ما أقوم به لا قيمة له”، “الكل يتقدم إلا أنا”… ؛ وحين تتكاثر هذه الجمل في أعماقنا، تترسخ قناعة أننا مجرد كائنات عابرة، لا تستحق الحب أو التقدير… ؛ هنا، يبدأ الضياع لا بوصفه حالة مؤقتة، بل كنمط عيش، كغيمة رمادية تظلل كل قرار، وكل علاقة، وكل حلم.
ولعل من أبرز جذور هذا الضياع، هو الانفصال بين “الذات الحقيقية” و”الذات التي يراد لنا أن نكونها”… ؛ فالمرء الذي يسعى باستمرار لإرضاء الآخرين أو السير على خطى توقعاتهم، يفقد تدريجياً بوصلته الداخلية… ؛ لانه يتقمص أدواراً لم يخترها، ويعيش حياة ليست حياته، ويقيس نجاحه بمقاييس غيره… ؛ ومع كل فشل في تحقيق تلك المعايير المفروضة، يتضاعف شعوره بالعجز، وتتآكل ثقته بذاته شيئاً فشيئاً.
لا يُطلب منّا أن نثور على كل ما تعلمناه من آبائنا أو مجتمعنا، لكن المطلوب هو أن نميز بين ما نؤمن به فعلاً، وما جُعلنا نظن أننا نؤمن به… ؛ أن نعيد تعريف النجاح والسعادة وفق قاموسنا الداخلي لا وفق القواميس المستوردة من الآخرين.
ثمّة من يحمل داخله ماضياً ثقيلاً، تجارب قاسية، إخفاقات متكررة، وخيبات لا تزال تؤلمه… ؛ هذه الذكريات تتحول إلى جدران خفية تحاصره، وتمنعه من التقدّم، وتهمس في أذنه : “ستفشل مجدداً”، “لا تجرب، لا تُحب، لا تحلم”… ؛ وهكذا، تتحول المخاوف إلى أعذار، والأعذار إلى عجز، والعجز إلى ضياع.
ولكن، أليس من المفارقة أن نُفني أعمارنا هرباً من ألم التجربة، بينما الضياع نفسه هو أقسى أنواع الألم؟!
ألا تستحق حياتك أن تُعاش بكامل طاقتها، ولو مع بعض المخاطر، وبعض السقوط؟
الحل لا يكمن في وصفة سريعة أو جملة تحفيزية عابرة، بل في رحلة وعي متأنية، تبدأ من تصالحك مع ذاتك، وتقبّلك لتفردك، وامتلاكك لشجاعة أن تسير في دربك، لا دروب الآخرين… ؛ تذكّر:
أنت لست نسخة مشوهة من أحد، بل نسخة فريدة من إنسان نادر… ؛ لا يُطلب منك أن تكون كاملاً، بل أن تكون صادقاً مع ذاتك… ؛ لا تدع مخاوف الأمس تسجن أحلام الغد… ؛ المستقبل ليس عدواً، بل كتاباً لم يُكتب بعد، وأنت الكاتب… ؛ وفي لحظة ما، ستدرك أن الضياع ليس نهاية الطريق، بل دعوة للبحث عن الطريق الصحيح. وأن أهم اكتشاف في الحياة، ليس مكانك في هذا العالم، بل مكانك داخل نفسك.