حسين شكران الأكوش العقيلي
في زمنٍ تتسارع فيه الصور أكثر من الأفكار، وتُبنى فيه القناعات على ما يُعرض لا على ما يُقرأ، تتسلل هوليوود إلى الوعي الجمعي بصمتٍ مدوٍّ، حاملةً معها سردياتٍ لا تُروى عبثًا، بل تُصاغ بعنايةٍ تخدم منظومةً ثقافيةً عالميةً تُقصي كل ما لا يتماشى مع رؤيتها المادية للكون والإنسان والمصير. ومن بين أكثر القضايا التي تتعرض للتهميش والتشويه في هذا الخطاب البصري، قضية الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف)، التي تمثل في وجدان المؤمنين وعدًا بالخلاص الإلهي، ورمزًا للعدل في زمنٍ طغى فيه الظلم وتاهت فيه البوصلة الأخلاقية.
ليست هوليوود مجرد مصنعٍ للترفيه، بل هي أداةٌ ناعمةٌ لصياغة المفاهيم، وإعادة تشكيل الرموز، وتوجيه الإدراك نحو نماذجٍ محددةٍ من البطولة والخلاص. ففي معظم إنتاجاتها، يُقدَّم (المنقذ) بوصفه شخصيةً خارقةً، غربيةً، غالبًا ما تكون أمريكية أو يهودية، تحمل صفاتًا جسديةً وتقنيةً استثنائية، وتُنقذ العالم من الشر الذي غالبًا ما يُلبَّس بلباسٍ شرقي أو إسلامي. هذا التلاعب الرمزي لا يأتي صدفة، بل ينبع من إدراكٍ عميقٍ بأن الرموز الدينية، وعلى رأسها الإمام المهدي، تحمل طاقةً روحيةً قادرةً على تحريك الجماهير، وبناء الأمل، وتحدي الواقع الظالم.
إن تغييب صورة الإمام المهدي من المشهد الإعلامي العالمي، أو تشويهها، لا يُعبّر فقط عن جهلٍ بالمعتقدات الإسلامية، بل يكشف عن خوفٍ من الفكرة ذاتها: فكرة أن هناك من سيأتي ليُقيم العدل، ويُسقط الطغيان، ويُعيد ترتيب العالم على أساسٍ من الحق والرحمة. هذه الفكرة، في منطق القوى المهيمنة، تُهدد استقرار المنظومة التي تقوم على الاستهلاك، والهيمنة، وتكريس الظلم بوصفه (واقعًا لا يُمكن تغييره) . ولذلك، فإن الحرب على الإمام المهدي ليست حربًا على شخصٍ غائب، بل هي حربٌ على المعنى، على الأمل، على العدالة المؤجلة.
ما يُثير القلق في هذه الحرب الرمزية، أنها لا تُخاض بالسلاح، بل تُخاض بالصورة، بالحبكة، بالرمز. تُقدَّم فيها البدائل الزائفة، ويُعاد تعريف (الخلاص) بوصفه انتصارًا للتكنولوجيا، أو للذكاء الاصطناعي، أو للقوة العسكرية، بينما يُقصى البعد الروحي، ويُهمَّش الوعد الإلهي، ويُحوَّل الانتظار إلى حالةٍ من السخرية أو السلبية. وهنا، تتجلى مسؤولية المفكرين والكتّاب في التصدي لهذا الخطاب، لا بردود فعلٍ غاضبة، بل بإنتاجٍ فكريٍ وفنيٍ أصيل، يُعيد الاعتبار للقضية المهدوية، ويُقدمها بلغة العصر، دون أن يُفرّط بجوهرها الروحي والقرآني.
إن الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ليس مجرد شخصيةٍ غيبية، بل هو تجسيدٌ لفكرة الإصلاح الشامل، والانتصار للحق، وإقامة العدل في عالمٍ اختلت فيه الموازين. وكل محاولةٍ لتشويهه، أو لتقديم بديلٍ عنه، هي في حقيقتها محاولةٌ لإبقاء الظلم قائمًا، ولمنع البشرية من الحلم بعالمٍ أفضل. ولذلك، فإن الدفاع عن القضية المهدوية لا يكون فقط في المنابر الدينية، بل يجب أن يمتد إلى الإعلام، والفن، والثقافة، حيث تُصاغ العقول وتُبنى التصورات.
في عالمٍ تتسابق فيه الأمم على رواية مستقبلها، يجب أن يكون لنا نحن أيضًا روايتنا. روايةٌ لا تُستورد من هوليوود، بل تُكتب من عمق الإيمان، ومن نور الانتظار، ومن يقين الوعد الإلهي. فالمهدي ليس بطلًا خارقًا من أفلام الخيال، بل هو وعدٌ ربانيٌ بالعدل، لا يُقهر، ولا يُشترى، ولا يُشوّه. وإن غيابه لا يعني غياب الأمل، بل يعني أن على المؤمنين أن يُعيدوا بناء الوعي، ويُحصّنوا الهوية، ويُمهّدوا للعدل، لا بالانفعال، بل بالعمل، لا بالردود، بل بالرواية.
وإن الحرب الرمزية التي تُخاض ضد الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف) ليست مجرد معركة إعلامية، بل هي اختبارٌ للوعي، وامتحانٌ للهوية، وتحدٍّ للإرادة الثقافية في زمنٍ تتكالب فيه القوى على طمس المعنى وتزييف الرموز. وإننا، في مواجهة هذا التيار الجارف، لا نملك رفاهية الصمت، ولا ترف الانتظار السلبي، بل نحن مدعوون إلى أن نُعيد صياغة حضورنا، ونُنتج خطابًا أصيلًا، يُنقّب عن الحقيقة وسط الضجيج، ويُمهّد للعدل وسط الظلم، ويُعيد للرمز المهدوي مكانته في وجدان الأمة.
فالإمام الغائب ليس غائبًا عن الوعي، بل هو حاضرٌ في كل فكرةٍ تُقاوم، وكل قلمٍ يُصلح، وكل صوتٍ يُنادي بالحق. وإننا إذ نكتب، لا نُدافع عن شخصٍ بقدر ما نُدافع عن وعدٍ إلهيٍ يُعيد للإنسان كرامته، وللتاريخ توازنه، وللأمل شرعيته. فلتكن كتاباتنا تمهيدًا، وأفكارنا جسورًا، ومواقفنا نوافذَ نحو فجرٍ لا يُطفئه إعلام، ولا تُغيّبه شاشة.
والله من وراء القصد، وهو وليّ المنتظرين.