يوم الجمعة من يوم العَروبة إلى عيد الإسلام الأسبوعي

الكاتب : الاستاذ حسين شكران الاكوش العقيلي
—————————————
بقلم: الأستاذ حسين شكران الأكوش العقيلي
ماجستير فقه مقارن
يوم الجمعة ليس مجرّد يومٍ من أيام الأسبوع، بل هو نافذة روحية تطلّ منها الأمة الإسلامية على السماء، وتتجدّد فيها صلتها بالله عزّ وجل. غير أن لهذا اليوم تاريخًا طويلًا وجذورًا تمتد إلى ما قبل الإسلام، حيث لم يكن يحمل الاسم ذاته ولا الدلالة نفسها، بل كان يومًا من أيام العرب في الجاهلية يُعرف باسم يوم العَروبة، ثم غيّر الإسلام معناه واسمه، فصار يوم الجمعة رمزًا للتوحيد والوحدة والعبادة.
لقد كان يوم العَروبة عند العرب قبل الإسلام يوم اجتماعٍ عامّ، تُقام فيه الأسواق، وتُعقد فيه مجالس الشعر والخطابة، ويتلاقى الناس للتشاور في أمورهم الاجتماعية والسياسية. وكانت قريش وسائر القبائل تنظر إليه كفرصة للالتقاء وتبادل المنافع، دون أن يرتبط بطابعٍ دينيّ خاص. وقد وردت إشارات في بعض الروايات إلى أن العرب سمّوه بالعَروبة لما فيه من (عُرْبٍ) أي بيانٍ وفصاحة، فهو اليوم الذي تُظهر فيه العرب ألسنتها بالقول والخطابة.
ثم جاء الإسلام ليعيد لهذا اليوم معناه الحقيقي، ويحوّله من يوم دنيا إلى يوم عبادة. فقد اختاره الله تعالى ليكون يوم الاجتماع الأكبر للمسلمين، تُقام فيه الصلاة الجامعة التي تجمع بين العبادة والوعي، بين الخشوع لله والنهضة بالمجتمع. وجاء ذكره في القرآن الكريم صريحًا في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (الجمعة: 9).
بهذا النص القرآني انتقل اليوم من رمز قبليٍّ واجتماعيٍّ إلى شعيرةٍ إيمانيةٍ مقدّسة، تحيي روح الجماعة وتذكّر بوحدة الأمة. ومنذ تلك اللحظة أصبح يوم الجمعة عيدًا أسبوعيًا للمسلمين، يجتمعون فيه للصلاة والخطبة والدعاء، كما يجتمعون في الأعياد السنوية، ولذلك قال النبي ﷺ:
(إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين) العلامة المجلسي كتاب بحار الأنوار ج٨٦ ص ٢٧٦
ولم يكن التغيير في الاسم مجرد تبديل لغوي، بل تحوّل في الهوية الزمنية للأمة، إذ انتقلت من رؤيةٍ زمنيةٍ دنيوية إلى رؤيةٍ تعبدية، ومن تجمعٍ لغرض التجارة أو اللهو إلى اجتماعٍ للذكر والعبادة. فصار الجمعة عنوانًا للنهضة الروحية، ومظهرًا من مظاهر وحدة الصف الإسلامي.
واليوم، وبعد قرونٍ من ذلك التحوّل، يبقى يوم الجمعة رمزًا خالدًا في الذاكرة الإسلامية، يحمل معه روح الاجتماع والسكينة والتجديد، يجمع الناس على كلمة التوحيد بعد أن كانت تجمعهم الدنيا.
إنه يومٌ يتجاوز تقويم الزمان، ليصبح موعدًا أسبوعيًا مع السماء، تتطهّر فيه القلوب، وتتعانق فيه الأصوات على منابر الهدى، كما تعانق التاريخُ والقداسة في معنى هذا اليوم الذي بدأ عروبةً وانتهى جمعةً.