العنصرية والاستغلال بحقّ السوريين في تركيا: قراءة سياسية-اجتماعية-نفسية في ظاهرة تتجذّر خلف صمتٍ قسري وتشويهٍ إعلامي

رياض سعد

* المقدمة: شاشات تعكس مأساة

تضجّ الشاشات ومواقع التواصل بصورٍ قاسيةٍ لا تُمحى , وانتشرت مئات بل الاف المقاطع خلال السنوات الأخيرة على منصّات التواصل الاجتماعي تظهر حجم المأساة التي يعيشها كثير من السوريين في تركيا، سواء في أماكن العمل أو في الفضاءات العامة أو على الحدود … ؛ فالمشاهد التي وثّقت الضرب والإهانة والابتزاز والاستغلال ليست حوادث فردية معزولة كما يُروَّج لها، بل باتت ظاهرة ذات أبعاد سياسية واجتماعية ونفسية، تتغذّى على خطابٍ رسمي وشعبي وإعلامي مشحون، وتؤثر بدورها على وعي الضحايا ونظرتهم إلى أنفسهم وإلى محيطهم…. ؛ فهذه المشاهد المؤلمة والتي تتراوح بين الاستغلال الاقتصادي الممنهج والجرائم الجنائية والاعتداءات الجسدية والجنسية والعنصرية الصريحة … ؛ ليست حوادث منعزلة، بل هي تعبير عن ظاهرة مركبة تنمو في تربة خصبة من التحولات السياسية والاضطرابات الاقتصادية والتأزم الاجتماعي، مما يجعل من اللاجئ  والمقيم السوري كبش فداء لأزمات معقدة.

لم تعد منصات التواصل الاجتماعي مجرد نوافذ افتراضية، بل تحولت إلى مرايا كاشفة لجراح عميقة تنزف في الواقع التركي… ؛  فالفيديوهات التي تتناقل بمشاهد مؤلمة لاعتداءات عنصرية على السوريين، من ضرب وإهانة علنية في الشوارع والمتاجر، ليست سوى القشرة الرقيقة لواقع مركب ومتعدد الأبعاد… ؛  هذه المشاهد، التي قد تصل إلى حد صفع طفل سوري يبيع دبابيس شعر في مترو إسطنبول أمام الملأ؛ ما هي إلا تعبير دراماتيكي عن ظاهرة بنيوية تضرب جذورها في التربة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركية، محولة اللاجئ من إنسان يبحث عن ملاذ إلى كبش فداء لأزمات دولة مضيفة تتخبط في أزماتها الداخلية.

 لقطاتٌ لرجلٍ مكلومٍ يُداسُ على صدره، لطفلٍ تائهٍ على رصيفٍ باردٍ، وقاربٍ مطاطيٍ يبتلعُ آمالَ العائلات في لحظةٍ سوداء — وهذه الصور ليست مجرد أحداثٍ متفرّقة، بل فصولٌ في روايةٍ طويلةٍ من الهشاشة والاستغلال والتهويل الإعلامي… ؛  ففي السنوات الأخيرة تصدرت قضايا تهريب المهاجرين، حوادث غرق قوارب، وشبكاتٍ للاتجار بالبشر عناوين الصحف، ما يجعل التحليل الاجتماعي والسياسي والنفسي لهذه الظاهرة أمراً ضرورياً لفهم ما يعيشه السوريّون في تركيا اليوم … .

* البنية السياسية: سياساتٌ معلنةٌ وهشاشةٌ متعمّدة

من زاويةٍ سياسية، تحولت قضايا اللاجئين والمقيمين السوريين  إلى أدواتٍ سياسيةٍ وإعلامية… ؛ فقد استغلت بعض القوى التركية وجود اللاجئين في الداخل كورقة انتخابية… ؛  فجرى تصوير السوريين تارةً كعبء اقتصادي، وتارةً كأداة ضغط إقليمية، وتارةً أخرى كـ”ضيوف” يجب أن يظلّوا خاضعين لـ”امتنان” الدولة… ؛ هذا الخطاب سمح بتبرير الإهانات والاعتداءات، وصوّرها كـ”ردّ فعل شعبي” لا شأن للسلطات به، رغم أن كثيراً منها وقع أمام أعين كاميرات أو شهود دون محاسبة تُذكَر… ؛ كما لعبت الحملات المنظمة على وسائل التواصل دوراً في شيطنة السوري وربطه بمشاكل البطالة والأمن، مما ضاعف حدة الاحتقان… .

• تحريض سياسي منظم: يبرز دور أحزاب مثل “الظفر” اليميني المتطرف، الذي يجعل من “ترحيل السوريين” شعاراً مركزياً لحملاته… ؛ اذ يقوم زعماء هذه الأحزاب بشيطنة الوجود السوري عبر ربطه بأزمات اقتصادية وأمنية، وصولاً إلى اتهامات بالارتباط بتنظيمات استخباراتية وإرهابية … ؛  هذا التحريض المباشر يضفي شرعية ظاهرية على الخطاب العنصري ويحوله من موقف هامشي إلى رأي عام قابل للتفجر.

• تغيير السياسات الرسمية: كاستجابة لهذه الضغوط، تشهد السياسة التركية الرسمية تحولاً ملحوظاً منذ نحو عامين او اكثر باتجاه التضييق على اللاجئين والمقيمين… ؛ و تم تجسيد ذلك عبر إجراءات ملموسة فرضت قيوداً خانقة على حياة السوريين، مثل اشتراط “إذن سفر” للتنقل بين الولايات، وفرض “بصمة أسبوعية” تلزمهم بالإقامة في مكان واحد، مما يحولهم إلى مقيمين تحت المراقبة الدائمة ويهدد أي مخالف بالترحيل.

• الاستغلال لخلق الفوضى: تشير تحليلات إلى أن بعض الاعتداءات العنيفة، كتلك التي شهدتها ولاية قيصري في صيف 2024، لم تكن عفوية بالكامل… ؛ حيث هاجمت حشود متظاهرة منازل ومتاجر السوريين وأشعلت النار فيها رداً على جريمة فردية… ؛ بل جاءت في مناخ تحريضي مسبق، حيث اتهم الادعاء العام لاحقاً زعيم حزب الظفر، أوميت أوزداغ، بالتحريض على هذه الأحداث… ؛  فقد ظهرت فيها أدلة على التخطيط، مثل تجنيد صغار السن والمشبوهين جنائياً لتنفيذ الهجمات، مما يوحي بأن “عقلاً سياسياً” يستغل الاحتقان الاجتماعي لتحقيق أهداف قد تتعلق بزعزعة الاستقرار أو الضغط على الحكومة… .

• التجنيد كمرتزقة: تصدير الأزمة: في بعد آخر أكثر قتامة، تحول الجسد السوري إلى سلعة في سوق الحروب بالوكالة... ؛  فبعد ليبيا وأذربيجان والعراق ، كشفت تحقيقات عن توجه مئات المقاتلين السوريين المدعومين من أنقرة إلى النيجر كمرتزقة، عبر شركات أمنية خاصة مقرّبة من الأجهزة الأمنية التركية… ؛ و هؤلاء الشباب، الذين تدفعهم الظروف الاقتصادية اليائسة، يتم تسليمهم كوقود لحروب في أراضٍ بعيدة، خدمة لمصالح تركيا الجيوسياسية وتوسيع نفوذها، في عملية تجردهم من إنسانيتهم مرتين: مرة كلاجئين ومرة كمقاتلين مستهلكين.

• صمت رسمي ومأزق الحماية: في مواجهة هذا المدّ من الكراهية والاستغلال ، يلف الصمت الرسمي، أو الردود الخجولة، الكثير من التصريحات والاعتداءات… ؛  بيانات حقوقية تشير إلى أن صمت الحكومة التركية، رغم سيطرتها على معظم وسائل الإعلام وقدرتها على الرقابة، يمثل تقصيراً في مسؤوليتها عن حماية السلم الأهلي… ؛  وضع “الحماية المؤقتة” الهش، الذي يعيش تحت مظلته ملايين السوريين، يبقيهم في حالة من اللااستقرار الدائم، حيث يمكن أن تتحول الإقامة إلى تهديد بالترحيل في أي لحظة، مما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال والخوف من المطالبة بحقوقهم.

* البعد الاجتماعي والاقتصادي: الاحتقان المجتمعي وصراع البقاء

من الناحية الاجتماعية والاقتصادية :

• العبء الاقتصادي وتأنيب “الآخر”: تمر تركيا بأزمات اقتصادية طاحنة، ويتم تصدير فشل السياسات الاقتصادية وتحميل اللاجئين والمقيمين مسؤولية التضخم وارتفاع الأسواء وقلة الوظائف… ؛  هذا التوجيه الخاطئ للغضب يحول السوري، الذي غالباً ما يعمل في ظروف قاسية وبأجور متدنية، من ضحية للأزمة إلى سبب متخيل لها… ؛ نعم , يُعامل جزء كبير من العمال السوريين كقوة عمل رخيصة يمكن استغلالها دون رقابة أو حماية… ؛  تدني الأجور، ساعات العمل الطويلة، وغياب العقود القانونية جعلت السوري في موقع هشّ للغاية، إذ يخشى المطالبة بحقوقه خوفاً من الترحيل أو الانتقام… ؛ وقد ترافقت هذه الهشاشة مع انتشار أنماط مختلفة من الاحتيال والابتزاز: مصادرة الأجور، التلاعب بالسكن، وتهديدات مستمرة بالطرد أو الإبلاغ… ؛ وفي حالات عديدة تحوّل الاعتداء الجسدي إلى وسيلة “تأديب” يمارسها بعض أرباب العمل أو المتعصبين وكأنها أمر طبيعي… ؛ فضلا عن العمالة الرخيصة والسوق السوداء: اذ  يُحصر الكثير من السوريين في قطاعات مثل الزراعة والبناء، حيث ينتشر العمل غير الرسمي على نطاق واسع وتكون الحماية القانونية محدودة… ؛ وهذه الحالة تجعلهم فريسة سهلة لأصحاب العمل المستعدين لاستغلال حاجتهم.

• خطاب الكراهية والذاكرة الجمعية: يتغلغل خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، محولاً الاختلاف الثقافي أو الديموغرافي إلى تهديد وجودي… ؛  وتستحضر بعض التصريحات العنصرية ذاكرة تاريخية مؤلمة، كما في أحد الاعتداءات حيث صرخ المعتدي: “ألم نحرر لك بلدك؟”، مختزلاً العلاقة المعقدة في دين مفترض وواجب الطاعة… ؛  هذه الخطابات تذكر بالعنف الجماعي الذي تعرضت له أقليات في تاريخ تركيا، مما يثير مخاوف من تكرار سيناريوهات مأساوية.

الخطاب السياسي التحريضي يترجم على الأرض إلى ممارسات يومية… ؛  فتزداد الحوادث التي يتعرض فيها السوريون للسب والضرب والطرد من المتاجر أو المواصلات العامة… ؛ فضلا عن  الشعارات العنصرية التي تردد في ملاعب كرة القدم، مثل  ( لا نريد لاجئين سوريين في بلادنا ) ؛ هي تعبير عن ترسيخ هذه الكراهية في جزء من النسيج الاجتماعي، مما يطبع العنف ويمنحه شرعية زائفة.

• العزلة وانعدام الحماية القانونية: يعيش الكثير من السوريين في حالة من الانفصال والقلق الدائم، حيث تتحول الأحياء التي سكنوها لسنوات إلى أماكن مراقبة ومنازلهم إلى أهداف للمداهمة… ؛ وضع “الحماية المؤقتة” الهش لا يمنحهم حقوق اللجوء الكاملة ولا يضمن استقرار الإقامة، بل يبقيهم في حالة من الترقب واللايقين… ؛  حتى الحصول على الجنسية التركية، كما تظهر شهادات بعض السوريين، قد لا يحمي من العنصرية أو يمنح شعوراً حقيقياً بالانتماء والمساواة.

• تجارة الموت: من أعضاء الجسد إلى قاع البحر: في أسوأ حالات الاستغلال، تتحول حياة السوريين إلى تجارة مربحة… ؛  ففي أحد الأمثلة الصادمة، قُبض على إسرائيلي في إسطنبول بتهمة الاتجار بأعضاء اللاجئين السوريين، حيث كان يقنعهم ببيع كليتهم ليخرجوا من ضائقتهم المالية… ؛  وفي اتجاه آخر، تتحول أحلام العبور إلى أوروبا إلى جثث تلفظها أمواج بحر إيجة… ؛  تقارير دورية تتحدث عن غرق مهاجرين سوريين قبالة السواحل التركية، كحادثة غرق قارب مطاطي أسفرت عن مقتل 16 شخصاً، وهي صورة مأساوية لاستغلال شبكات التهريب لليأس السوري.

* البعد النفسي: جروح الحرب والهجرة والتهجير التي لا تندمل والعبء المزدوج

وفي المستوى النفسي، تظهر الظاهرة الأكثر مرارة: صمت كثير من السوريين عن الانتهاكات أو حتى دفاعهم عمّن يسيء إليهم… ؛  فجزء  كبير من اللاجئين والمهاجرين والمقيمين السوريين  تعرّض خلال سنوات الحرب لتجارب قاسية أنتجت شعوراً بالعجز والخوف، وجعلت أي مكان يمنحهم الحد الأدنى من الاستقرار يبدو ملاذاً لا يجوز المساس به… ؛  أضف إلى ذلك تأثير الإعلام الموجّه، الذي عمل على خلق صورة مثالية عن تركيا كـ”حامٍ” و”منقذ”، فصار نقدها في نظر البعض وكأنه طعن في آخر خيط أمان… ؛ و هذا النمط النفسي المعروف بـ”الارتباط بالمعتدي” يظهر عادة عند الجماعات التي تعيش فترات طويلة تحت ضغط التهديد واللايقين.

وتزداد الظاهرة غرابة حين نقارنها بما يلقاه السوريون في دول أخرى يستفيدون فيها من الأمن والحقوق وفرص العمل، لكنهم مع ذلك لا ينظرون إليها النظرة نفسها ولا يمنحونها القدر ذاته من الولاء العاطفي… –  كالعراق الذي يوفر للسوريين الامن والعيش الكريم – ؛ و هذا التناقض يكشف بوضوح قدرة الإعلام الموجّه على إعادة تشكيل الوعي وصياغة الانتماء، بحيث يتحول المعتدي في المخيال إلى حامٍ، والواقع القاسي إلى صورة ناعمة تجري حمايتها من النقد…!!

كثيرون من السوريين ممن تعرّضوا للعنف أو شاهده، يحملون صدماتٍ متراكمة — صدمات الحرب، فقدان الوطن، ثم صدمات التمييز أو الاستغلال في المهجر… ؛ هذه الطبقات النفسية تُفسّر صمتاً دفاعياً أحياناً، أو قبولاً لمناخٍ مهينٍ مقابل بقاءٍ ماديٍّ ضعيف… ؛ بل إن ظاهرة “التمسك بالمُعتدي” أو قبولِ صورةِ الحامي رغم العنف، تندرج في إطار آليات نفسية للبقاء؛ حيث يُفضّل البعض الحفاظ على هامشٍ من الأمان ولو كان نسبيّاً بدلاً من مواجهةِ مخاطر أكبر كما اسلفنا .

نعم , تترك الاعتداءات العنصرية آثاراً نفسية عميقة تلحق ضرراً بأفراد ومجتمعات بأكملها :

• اعتلال الصحة النفسية: يؤكد اختصاصيون نفسيون أن التعرض المتكرر للتمييز والعنف يؤدي إلى مشاعر مزمنة من الحزن والقلق، ويهدد بالإصابة بالاكتئاب واضطرابات النوم… ؛  كما أنه يقوض الثقة بالنفس ويشوه تقدير الذات، مما قد يعطل القدرة على بناء حياة جديدة… ؛ وفقاً لتقديرات السلطات التركية نفسها، فإن 55% من اللاجئين السوريين على أراضيها في حاجة إلى دعم نفسي. هذا الرقم المخيف يكشف عن حجم المعاناة الخفية …!!

• التأثير على النسيج الاجتماعي والأسري: تمتد تداعيات العنصرية إلى العلاقات الشخصية والعائلية، حيث يعمق الشعور الدائم بالتهميش والعزلة من الهوة بين الفرد ومحيطه… ؛ وقد تصل الآثار إلى حد اليأس الشديد، كما في حالة الطالبة السورية “تولين” التي حاولت الانتحار بسبب التنمر المستمر من زميلاتها في المدرسة… ؛ الأطفال الذين يشهدون هذه الأحداث أو يتعرضون لها، مثل الطفل الذي صُفع في المترو، يحملون معهم جراحاً قد تؤثر على تكوين شخصيتهم وثقافتهم للأمان والثقة بالآخرين… .

• صدمات متكررة: كل حادثة عنف، سواء كانت اعتداءً جسدياً في الشارع أو شائعة تحريضية على الإنترنت، تعيد إحياء صدمات الماضي المرتبطة بالحرب والتهجير، مما يحبس الضحايا في حلقة مفرغة من الخوف وعدم الأمان… .

* الجرائم المنظمة والاتجار: من تقاريرٍ إخباريةٍ إلى مفاهيمٍ ملموسة

لم تعد أنماط الاستغلال تجري في الظلّ فقط؛ تحقّقت السلطات وفتحت تحقيقاتٍ في قضايا اتجار بالأعضاء وشبكات تهريب، وأُلقِيَ القبضُ على متّهمين، ما يؤكد وجود شباكٍ واسعةٍ من الفاعلين تستفيدُ من هشاشة الضحايا وندرة الرقابة… ؛ التقارير التي نُشرت عن توقيف مشتبهين في عقودٍ أخيرة، وعن قضايا تهريب وعمليات مشبوهة في مؤسسات صحية أثارت ذعراً وقلقاً عميقاً لدى السوريين وأقاربهم، ووضعت تساؤلاتٍ أخلاقيةً وقانونيةً حول حماية الفئات الأكثر ضعفاً… ؛  لكن من المهم تمييز التقرير الصحافيّ عن الاتهام الجزافي: التحقيقات جارية والاتهامات تتبدّل مع تقدّم الإجراءات القضائية.

* البحر كقبرٍ ورمز: تهريبٌ ومخاطرةٌ ومأساة

صور القوارب المطاطية المحطّمة، والملابس الطافية على الماء، وأسماءٍ تُسجّل كـ”مفقودين” على قوائم الموانئ؛ كلّها استعاراتٌ حيّةٌ لواقع يختبره آلاف السوريين يومياً… ؛  غرق القوارب قبالة السواحل التركية أو اليونانية، وعمليات التهريب التي تروح بين مهربٍ يطمع وربّ عملٍ يرفض توظيف الأجدر، تُجسد خياراً قاسياً: البقاء في بيئةٍ معانِدة أم المخاطرة بحياة الأسرة بحثاً عن أفقٍ أقلّ ضيقاً… ؛  تقارير الوكالات الإخبارية تُنوّه بتكرار حوادث الغرق وعمليات الإنقاذ والوفيات، بينما يوفّر مشهد البحر مقياساً لصمود الإنسان أو سقوطه في السردية الجماعية.

* الإعلام واللغة: من التحريم إلى التبرير

الإعلام يلعب دورين متقابلين: كشفُ الانتهاكات، وفي المقابل تبريرُها بتغطياتٍ تروّج لغبارٍ مبرّرٍ عن “الآخر”. عندما تُقدّم وسائل إعلام رواياتٍ تُقوّض كرامة اللاجئ أو تروّج لتكريسٍ اجتماعيٍّ لِبُعدٍ عن العدالة، فإنها تُسهِمُ في إدامة عنفٍ يوميّ… ؛  نفس الرسائل الإعلامية التي تصوّر تركيا “حاضنة” يمكن أن تتحوّل ليلاً إلى أداةٍ لتبرير التحامل الشعبي أو تمهيد مناخٍ يسمح بالعنف اللفظي والجسدي تجاه السوريين… ؛ هذه العملية لا تقتصر على خبرٍ هنا أو هناك؛ هي إعادة تشكيلٍ للوعي الجمعي تجعل الضحية جزءاً من المشكلة، بدلاً من أن تكون موضوعاً للحماية والإنصاف.

* استعاراتٌ تُضيءُ الواقع: الجسدُ كسوقٍ، والذاكرةُ كإبحارٍ بلا بوصلة

يمكننا أن نتصور المشهد على نحوٍ إستعارِيٍّ: الجسد السوري في تركيا بات سلعةً مُرخصةً في سوقٍ تغريه الحاجة؛ الذاكرة السورية تسبح كقاربٍ بلا بوصلة بين شاطئين؛ والإعلام يعمل كالطقس: يهدئ أحياناً، ويعصف أحياناً… ؛ هذه الاستعارات لا تُجمّل الواقع، بل تُبرز تناقضاته وتُعطي مفاتيح لفهم لماذا يستمرّ الاستغلال وكيف يُعاد إنتاجُه.

* الخاتمة: مخرجٌ لا يبدأ بلا عدالةٍ وحمايةٍ وإعلامٍ نزيه

إن الاعتداءات العنصرية والاستغلال الذي يتعرض له السوريون في تركيا ليست مجرد أحداث عابرة، بل ظاهرة مركّبة يشترك في صناعتها الخطاب السياسي، والاحتقان الاجتماعي، والهشاشة القانونية، والتشويه الإعلامي… ؛ وهي تذكير بأن اللاجئ، أيّاً كانت وجهته، يبقى الحلقة الأضعف حين يغيب القانون وتُستثمر مأساته لخدمة المصالح، وأن الوعي الجمعي يمكن أن يُشكّل أو يُشوَّه بيسر حين تُحتكر المعلومة وتُضخّم الرواية وتُهمل الحقيقة.

وسيستمرّ المشهد في إنتاج صورٍ مؤلمةٍ تُعيد تشكيل الذاكرة الجماعية لكلّ من ضحّى ووُضع في موضع الضعف… ؛  التقارير والأخبار تشير اليوم إلى وجود قضايا حقيقية تحتاج تحقيقات ومتابعة، والضمانة الحقيقية للإنصاف تكمن في مؤسسات قادرةٍ على فرض القانون وحماية الأضعف.