اسم الكاتب : آية منصور
لا يتطرق المتحف إلى حال الإعلام العراقي اليوم، لأنه متحف. مع أن حال الإعلام يوحي بأنه لا يزال ينتمي إلى حقبات غابرة.
عاد إليّ وجه كنت أحبّه كثيراً، لمذيعة عراقية تدعى شروق فائق، استحوذت مع عدد قليل جداً من الإعلاميات، على النجومية في التلفزيون العراقي، في فترة الحصار. يومها كنا منفصلين عن الحياة والعالم، ولا نعرف شيئاً من التلفزيون، سوى اخبار وحكايات عدي (ابن صدام حسين)، وثيابه الغريبة، التي يفضل إظهارها لنا، مقتطعاً اللحظات القليلة التي نفرح بها، عند مشاهدة أفلام كارتون، أو مسلسل عراقي، أو فيلم الظهيرة. لم نكن على اتصال مع العالم، كنا نعيش حصاراً من جميع الجهات، ولم يكن لنا علم بأن في الحياة شيئاً اسمه “طبق” (صحن ارسال) أو قنوات فضائية، وقنوات منوّعة وقنوات خاصة بالكارتون على سبيل المثال، ومن يريد الاحتفاظ باللاقط على سطح منزله، يترتب عليه أن يعيش رعباً من أن يكشف ويعاقب عقاباً لا رحمة فيه.
عاد إليّ وجه شروق وأنا أزور متحف الإعلام العراقي. عاد إليّ وجهها من بين وجوه الممثلين والإعلاميين العراقيين القدامى في المتحف، الذي يعتبر الأول في نوعه في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وهو بمثابة شريط استرجاع لحياة الإعلام في العراق منذ بداياته الأولى، عبر المعدّات التي استخدمت تاريخياً في البث والتسجيل والتصوير والتوليف (مونتاج) وسواها من وسائل الإنتاج التلفزيوني والإذاعي الذي تطوّر بشكل سريع وخاطف في السنوات الأخيرة. المتحف يعيد إلى الزمن التأسيسي للاعلام العراقي ألقه وألوانه الباهتة، لكن الدافئة في الوقت عينه، ويعيد إلينا، نحن أولاد الحصار، ذكريات قاتمة.
كان العراق، كما يظهر المتحف، أول المساهمين بنشر الصحافة الورقية في العالم العربي من طريق العثمانيين وبمعاونتهم، وأول صحيفة كانت “جورنال عراق” التي صدرت للمرة الأولى عام 1816. أعقب ذلك إصدار جريدة “الزوراء” عام 1869، باللغتين العربية والتركية، حتى عام 1920.
وبرغم سيطرة الحكم الملكي حينها على الصحافة بصورة عامة في العراق، إلا أن الكثير من الصحف المستقلة، استطاعت الظهور خلال تلك الحقبة، ولكن الشعب ركز اهتمامه على البث الإذاعي، الذي افتتح عام 1936، وكانت اذاعة جمهورية العراق الأولى في الشرق الأوسط، والتي لا تزال تبث حتى يومنا هذا. اما في ما يخص التلفزيون، فكان العراق أيضاً من أول الدولة العربية التي استثمرت فيه عام 1955. وما أن انتهى النظام الملكي بعد الانقلاب، حتى مرّ الإعلام العراقي بفترة الخطابات الثورية، والدعوات للثورات، حتى قيام “حزب البعث”، وسيطرته على العراق كلياً، فبدأ بتصفية الإعلام وإعادة صياغته بما يتلاءم وتوجهاته، ليتم غلق جميع الصحف بحلول عام 1968، وكمّ أفواه الصحافيين، وكانت الصحيفة الوحيدة المتبقية هي صحيفة “الثورة” الناطقة الرسمية باسم الحزب.
ماذا قدم صدام حسين للإعلام العراقي؟
بعد استلامه الحكم، حوّل صدام حسين التلفزيون والإذاعة والصحف لأدوات ناطقة بالولاء والتقديس له وحده. صوره وحدها كانت تتصدّر الصفحات الأولى في الصحف، وبداية البث التلفزيوني مع اشراقة كل شمس، وبعد قراءة القرآن في الاذاعة، كما غطّت جميع فعالياته ونشاطاته على معظم أخبار العالم الخارجي خصوصاً في فترة الحصار، وأصبح الإعلام العراقي بمثابة ثكنة عسكرية، تنقل اخبار القائد فقط، فلم يعرف العراق شيئاً سوى بعض البرامج أو المقالات الفنية، عما يدور في العالم الفني، أو السياسي، بما يناسب رغبة صدام.
تزعّم عدي صدام حسين نقابة الصحافيين العراقيين عام 1991، ليبدأ سلسلة من القمع والانتهاكات والطغيان، بحق جميع العاملين في هذا المجال، تضمنت اعتداءات جنسية على صحافيات واعلاميات وعمليات اغتصاب وتعذيب وسجن وقتل صحافيين وإعلاميين وإعلاميات. كان العمل في المجال الادبي والاعلامي في العراق يعد بمثابة مجازفة، وسيراً على أرض ملغومة، فلم يتمتع الإعلاميون العراقيون بأي حرية تعبير، كما شارك عدي أكثر من مرة قوائم “سود” لصحافيين وكتاب، استطاعوا ترك العراق بصعوبة بالغة، واعتبرهم “أعداء الوطن” بسبب عملهم أو مساهمتهم بالكتابة في صحافة، تعتبرها السلطات العراقية، معادية.
وكانت السلطات العراقية تعزي هروب الأدباء والصحافيين العراقيين إلى “أسباب اقتصادية”، لإبعادها من أي شبهة سياسية، لكن الأسباب الحقيقية لهروب ما يقرب من ألف مثقف وإعلامي عراقي خلال السنوات الخمس الأولى من التسعينات كانت بسبب المعاملة القاسية التي يتعرضون لها والتي وصلت إلى حدّ إرسال بعضهم الى معسكرات تعذيب مثل معسكر الرضوانية وحلق رؤوسهم ونصف شاربهم وحاجب واحد وقلع بعض أسنانهم.
كان عدي بصفته نقيب الصحافيين العراقيين ورئيساً للجنة الأولمبية العراقية قد أمر بإنشاء سجن عقوبات خاص بالأدباء والصحافيين والفنانين في مبنى اللجنة الاولمبية بجانب الرصافة من بغداد، دخله معظم الاعلاميين العراقيين ولفترات مختلفة. كما أمر عام 1993 برشق نائب نقيب الصحافيين لطفي الخياط وعضو مجلس النقابة أحمد صبري بالطماطم، أمام حشد من الصحافيين العراقيين والعرب، إلى اختفاء الكاتبين والصحافيين عزيز السيد جاسم وضرغام هاشم بعدما ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليهما بعد حرب الخليج الثانية مباشرة، فيما لم تكلف نقابة الصحافيين نفسها بالسؤال عنهما، وكذا فعل اتحاد الأدباء. وبذلك شعر المثقفون العراقيون بأنهم عرضة للمصير نفسه في أي وقت كان، كما يوضح الصحافي معد فياض في إحدى مقالاته عن وضع الإعلام العراقي في زمن صدام.
بعد الحرب، وسقوط نظام صدام، استبشر العراقيون خيراً بالحرية الإعلامية، وظهرت مئات من الصحف والقنوات، خصوصاً بعدما دخل نظام الترددات الفضائية الى البلاد، لكن الحكومات العراقية الآتية من بلاد الحريات، بدأت التضييق على الصحافيين العراقيين، وقتلت وقمعت كثيرين، عبر الاغتيالات والتهديد، لا سيما في عامي 2006 و2007، اللذين شهدا سلسلة تفجيرات، طاولت مواقع الصحف العراقية، والعاملين فيها.
لا يتطرق المتحف إلى حال الإعلام العراقي اليوم، لأنه متحف. مع أن حال الإعلام يوحي بأنه لا يزال ينتمي إلى حقبات غابرة. فكما كانت الحال في زمن صدام، مع فوارق تتعلق بحجم الطغيان والبطش، انتهى الأمر إلى عرقلة أي وسيلة حرّة لنقل الحقيقة. وندرت المؤسسات الإعلامية المستقلة والنقدية والحيوية في الساحة العراقية، واستطاع كثر من السياسيين العراقيين تأسيس قنوات ناطقة بميولهم وأفكارهم كما فعل قبلهم صدام حسين، من دون أي حسّ نقدي، وكأننا لم نفعل شيئاً، فالزمن يعيد نفسه ونظام التدوير لم ينته، فمن يعارض أو يتحدث عن هؤلاء السياسيين وهو يعمل في المؤسسة الإعلامية التابعة لهم، سيواجه مصيراً قاتماً، أقلّه الطرد والتهديد. كما قد يرفض في المنصات الأخرى، بسبب “مشاكسته” فينتهي به الأمر، خارج العراق، أو عاطلاً من العمل.