ورد حق السفر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ نصت المادة: (الثالثة عشرة) على أن لكل شخص الحق في حرية التنقل، وفي اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة، وله الحق في مُغادرة أي بلد بما في ذلك بلاده، وحقه في العودة إليه، وعلة التشريع أن حقوق الإنسان وحريته لا تكتمل إلا إذا شعر أنه حر، غير مقيد في حلّه وترحاله، وفي اختياره للمكان الذي يناسب إقامته داخل حدود بلاده، وكذلك له الحق في مغادرة بلاده إلى بلد آخر متى شاء، ورفع الإعلان العالمي هذا الحق إلى مصاف الحريات الأساسية التي لا تقبل التقييد التعسفي الذي يمس جوهر الحرية، ولاشك أن ورود هذا الحق في الإعلان العالمي يُعد تقدماً كبيراً، إذ لم يعد هذا الحق حقاً دستوريا داخلياً، بل حقاً عالمياً مثبتاً في مواثيق الأمم المتحدة، وحقاً لصيقاً بشخص الإنسان، وإلى ذلك ذهبت دساتير دول العالم وتشريعاتها، فقد نصت على هذا الحق، إما بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، أي في إطار عبارة: (الحرية الشخصية).
أما العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966م، الذي صادق عليه العراق عام 1971م، فقد نص في الفقرة الأولى من المادة (12) على حرية السفر، وأن لكل فرد مقيم بصفة قانونية ضمن إقليم دولة ما؛ الحق في حرية التنقل واختيار محل إقامته ضمن البلد، أو الانتقال من البلد الذي يحمل جنسيته إلى أي بلد آخر، وجاء في الفقرة الرابعة: لا يجوز حرمان أي شخص بشكل تعسفي من دخول بلد ما.
فضلاً عما تقدم فإن حق السفر مكفول بحسب الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان 1953م، وضمانات حق السفر في الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان 1978م، وضمانات حرية السفر وفق الميثاق الافريقي لحقوق الإنسان 1986م، وضمانات حرية السفر على وفق الميثاق العربي لحقوق الإنسان 1994م.
على الرغم من مصادقة العراق على مبادئ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وبضمنها حق التنقل والسفر، إلا أن التطبيق العملي لنظام البعث خلال سنوات حكمه كان يتناقض مع ذلك تماماً، فكانت السلطات تضع العراقيل والحواجز أمام تنقل الأشخاص وسفرهم، وهو في هذا يخالف حتى الدستور الذي كان يحكم نظام البعث، إذ نص دستور 1970 في المادة (الرابعة والعشرين) على: عدم منع المواطن من السفر خارج البلاد، أو من العودة إليه، ولا يجوز تقييد تنقله، وإقامته داخل البلاد، إلا في الحالات التي يحددها القانون. ومثلت تشريعات نظام البعث عرقلة واضحة لحقّ السفر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (375) في الرابع من حزيران 1972م في جلسته المنعقدة في اليوم نفسه، والذي خول بموجبه وزير الداخلية اتخاذ ما يلزم لمنع السفر السياحي، وتقليص السفر العلاجي، ويَلحظ أن القرارات التي تضع العراقيل أمام حق السفر إبان حكم نظام البعث أخذت بالتصاعد بحسب المراحل الزمنية، ففي 21 تشرين الثاني 1976، صدر قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (1281) الذي ينص على أن كل عراقي، أو عربي، أو أجنبي يعمل في دوائر الدولة، أو مؤسساتها، أو لدى القطاع الخاص، ويتلقى دعوة من جهة أجنبية ) رسمية أو غير رسمية(؛ لزيارة بلد خارج العراق، أن يحصل على موافقة مرجعه الرسمي أولاً، وعلى موافقة مديرية المخابرات العامة، وذلك قبل شهر واحد على الأقل من بدء الزيارة، وتوعّد القرار المخالفين بالفصل والحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات.
وفي الوقت نفسه فقد وضعت رسوم مالية على المسافرين تبلغ (15) ألف دينار بحسب قرار مجلس قيادة الثورة المنحل ذي الرقم (86) لسنة 1993، ثم رفع المبلغ إلى (40) ألف دينار لكل سفرة بموجب قرار مجلس قيادة الثورة المنحل ذي الرقم (55) في الأول من حزيران 1994، وفي عام 1995 رفع المبلغ إلى (100) ألف دينار لكل مسافر يبلغ عمره (18) عام فما فوق، واستمر منحى الصعود التدريجي؛ ليبلغ (400) ألف دينار عام 1996، وهذه الرسوم تعد أشبه بالتعجيزية قياساً بالوضع الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي، إذا علمنا أن معدل مرتب الموظف لا يتجاوز (5000) دينار.
ولم تقتصر العقبات التي وضعها النظام على الرسوم التعجيزية المفروضة، بل شملت عملية استحصال جواز السفر، وتأشيرة المغادرة التي ربطها النظام بموافقة مديرية الأمن، فضلاً عن إلزام من يريد السفر بالذهاب إلى المخابرات العامة؛ ليحصل على التوجيهات وإعطاء التعهدات اللازمة، علماً أن مديرية الجوازات هي إحدى مديريات الأمن العامة، الأمر الذي أضفى عليها صبغة تنفيذية رقابية، وليس خدمية.
إن هذه التشريعات كانت خطة بعثية لعزل الإنسان العراقي عن العالم الخارجي، بعد أن عزل عنه أبسط حقوقه الآدمية، وهي محاولة للتضليل الاعلامي، والتكتيم على صرخات الغضب الشعبي، فإذا خرج العراقي إلى دول العالم سوف يتكلم عن جرائمه وسوف تفتح الآفاق أمامه من ستلايت وغيرها، وسوف يفضح إعلاميا وتأسيساً على ما تقدم وبإزاء هذه التعقيدات والرسوم المفروضة على السفر أصبحت مسألة السفر خارج العراق حلماً بعيد المنال لغالبية الشعب العراقي، وكان هذا النظام يدرك جيداً أن أية تسهيلات في مسألة السفر ستفرغ العراق من سكانه هرباً من قسوة النظام والواقع المؤلم.
إن الدستور العراقي الدائم لسنة (2005) جاء كرد فعل على ما أفرزته السنوات الخمسة والثلاثون المنصرمة التي شهدت مصادرة أبسط الحقوق والحريات العامة، بما فيها حرية التنقل؛ لذا جاءت فقراته مثالية فيما يخص ضمان الحق في حرية التنقل؛ إذ جاء بنصوص صريحة تكفل هذا الحق مع إيجاد وسيلة أو آلية لهذا الضمان تتمثل بالرقابة على دستورية القوانين، والتي كانت الدساتير السابقة في عهد نظام البعث تفتقر إليها.