الاستملاك هو حرمان الشخص من ملكيته العقارية، رغماً عنه؛ لغرض تخصيص تلك الملكية للمنفعة العامة لقاء تعويض يدفع لمالك العقار يفترض أن يكون عادلاً ، ويتقدم حق الملكية الخاصة على جميع الحقوق الأساسية للفرد، فهو من الحقوق التي تتسم بقدسية دستورية عالية يجب حمايتها، وعدم المساس بها، إلا على سبيل الاستثناء، وقد فَطن المُشرع إلى ذلك في كثير من الدساتير، فحاول إحاطة الملكية الخاصة بحماية وضمانات عدة، وحرص كل الحرص في أن يكفل لها أبلغ الحماية، ويمنع مصادرتها، والتعدي عليها بشروط صريحة، وقاطعة لا تحتمل التأويل، والمصادرة التي طالت ممتلكات المواطنين إبان حكم البعث هي من نوع المصادرة العامة التي تعد من أقسى أنواع المصادرة، وأكثرها خطورة؛ لأنها تتعدى شخصية العقوبة، فهي تشمل حقوق الآخرين الذين لديهم الحق في الممتلكات المصادرة.
من خلال قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 798 في 19-12-1989 المنشور في مجلة الوقائع العراقية العدد 3288 في 1-1-1990والمرفق طياً، تم استملاك حي كامل في بغداد، وبلغ عدد الدور التي أزيلت (72) داراً في منطقة الكرادة – قرب السفارة الإيرانية ، وبتعويض رمزي لا يتناسب مع قيمة الأرض، وبذلك فقد الاستملاك ركناً اساسياً من أركانه القانونية، ومُنعت المحاكم من النظر في قضايا ناتجة عن هذا القرار – أي لا استئناف ولا تمييز- بمعنى أن من استملكت داره لا يستطيع الاعتراض على مبلغ التعويض، ولكي يتم الاستملاك كان لابد من منفعة عامة، أو عذر قانوني لهذا الاستملاك، فكانت الحجة بناء دار للأوبرا بحسب ما أعلن في وسائل الإعلام، إلا أنها لم تُشيد أصلاً، وبذلك انتفى الركن الأخر من أركان الاستملاك.
والحقيقة ان استملاك تلك الدور بحسب مقربين من متخذي القرار كان بسبب وقوعها بالقرب من السفارة الايرانية، وبالتالي احتمال تأثر الساكنين بأفكار معادية لنظام البعث، وأن ولاء أصحاب هذه المساكن أصبح مشكوكاً فيه، بسبب مجاورة السفارة، وربما يكون غريباً على المتلقي أن يستسيغ اعتقاد النظام بانتقال الولاء من خلال الجيرة، لكن لا غرابة في ذلك إذا علمنا أن نظام البعث اعتبر التركيبة البيولوجية للشخص معياراً للتبعية، وأن الولاء ينتقل عبر الدماء والجينات حتى وإن عاش الفرد مئات السنين في العراق، فهجّر مئات الآلاف من أبناء العراق بحسب القرار (666) الذي حرم العراقيين من جنسيتهم، واعتبرهم إيرانيين ، بل ذهب هذا النظام، وعلى رأس هرم السلطة إلى أبعد من ذلك، فاتهم بشكل ضمني شريحة كبيرة من المجتمع بفساد الدم فقال: (اجتثوا من أرض العراق؛ لكي لا يدنسوا تربة العراق، ولا يدنسوا هواء العراق، ولا يدنسوا الدم العراقي …) ، وهذا يعني أنهم يحملون في دمهم خاصية تشكل تهديداً لأمن الدولة، وإلى ذلك ذهب (فاضل البراك) مدير أمن النظام* آنذاك بقوله: إن التبعية الإيرانية ترتبط تاريخيا ونفسيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بوطنها الإيراني.
وتأسيساً على ما تقدم فإنه عند محاكمة قرار الاستملاك المذكور تتضح جملة من المخالفات القانونية، فالقرار يتعارض مع المبادئ، والأعراف، والمواثيق الدولية
*
، ينحدر من قبيلة آل بو ناصر، عشيرة البيكات، نقل إلى روسيا عام 1970م بمنصب معاون ملحق عسكري، ومسؤول تنظيمات البعث في أوروبا الشرقية، استدعي إلى العراق عام 1976 للقضاء على الحركات الإسلامية، وشغل مناصب حساسة من بينها مدير الأمن العام، ومدير المخابرات، قام بتصفية المعارضين لنظام البعث دون رحمة، عندما كان مديرا للاستخبارات عام ١٩٨٣، وكان معروفاً في الشعبة الخامسة بالشدة والقسوة بعد عام 1991 تم القبض على البراك، واحتجز في سجن الحاكمية، بسبب خلافه مع السبعاوي، وبرزان التكريتي، وحسين كامل، بعد أن فبركت له قصة الخيانة والعلاقة بألمانيا الشرقية، وأمضى عامين رهن الاعتقال، مورست عليه أشكال من التعذيب البدني والنفسي، وقد أصيب بالشلل التام في نهاية مدة الاعتقال، وتم تنفيذ حكم الإعدام به في نهاية عام 1993، في منطقة سلمان باك في موقع تابع للمخابرات بإشراف سبعاوي إبراهيم الحسن الذي كان يشغل موقع مدير جهاز المخابرات آنذاك، ويقال إن حسين كامل قتله بمسدسه الشخصي، وسلمت جثته إلى أسرته مع تعليمات بدفنه سراً، وعدم إقامة العزاء، أما أرملته (جنان الحديثي) فقد تزوجها عدوه اللدود برزان التكريتي الذي كان سبباً في إعدامه، وهذه هي النهاية الطبيعية لكل الطغاة والقتلة الذين يتلذذون بتعذيب الناس، وإراقة دمائهم؛ فسبحان من يسلط الظالمين على الظالمين.
والدستورية، ، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان نص في المادة (17) على أن لكلِّ فرد حقاً في التملُّك، ولا يجوز تجريد أحد من مُلكه تعسفًا، وأنه يتناقض ومبادئ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي أشار إلى أن كل دولة طرف في هذا العهد تتعهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي، وأن نظام البعث خالف دستور 1968 الذي نصت المادة (17) منه على أن: الملكية الخاصة مصونة، أما دستور 1970 فقد نص صراحة في الباب الثاني المتعلق بالأسس الاجتماعية والاقتصادية للجمهورية العراقية ضمن المادة السادسة عشرة: أن الملكية الخاصة، والحرية الاقتصادية الفردية؛ مكفولتان في حدود القانون، ولا تنزع الملكية الخاصة إلا لمقتضيات المصلحة العامة، ووفق تعويض عادل بحسب الأصول التي يحددها القانون.
ومن جهة أخرى فإن قرار مجلس قيادة الثورة المنحل يتعارض مع قانون الاستملاك العراقي لعام 1981 الذي نص على أن الاستملاك سواء كان رضائياً أو قضائيا أو إدارياً يجوز لصاحب حق التصرف مراجعة المحاكم، وتقديم الطعن بالقرار، وأن قيمة التعويض تبت بها هيئة التقدير والتثمين المشكلة بموجب المادة (13) من قانون الاستملاك رقم (12) لسنة 1981 المعدل الذي كان سارياً وقت استملاك العقارات المذكورة، إذ يُجرى الكشف لغرض تقدير قيمة التعويض من قبل هيئة التقدير التي تشكل برئاسة قاضي محكمة البداءة، وعضوية:
ا – رئيس دائرة التسجيل العقاري، أو من ينوب عنه من معاونيه.
ب – رئيس دائرة ضريبة العقار، أو من ينوب عنه من معاونيه.
ج – ممثل عن المستملك وممثل عن المستملك منه.
إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث؛ فقد تم استملاك ممتلكات المواطنين استثناءً من قانون الاستملاك، ولم يسمح للمحاكم في النظر في القضايا الناشئة عن ذلك.
1- محمود عبداللطيف، نزع الملكية للمنفعة العامة، دراسة مقارنة دار النهضة العرب 1988
2- مصطفى مجيد، قانون الاستملاك رقم 12 لسنة 1981، دار الحرية للطباعة والنشر بغداد، 1963، ص886.
3- محمد مجيد، القسوة لدى صدام حسين، تحليل للشخصية من خلال عرض وتوثيق أحداث تاريخية، بلا ناشر، بغداد 2010 م .