التمييز الطائفي عبارة عن تحديد الأعمال والسلوكيات والممارسات بواسطة الإيمان بالفوارق الدينية الناجمة عن جعلها حدودا تمثل التراتبية الاجتماعية بين الأشخاص والجماعات، ولاشك أن رمي الشيعة العراقيين بتهمة الأعجمية، أو الشعوبية، أو بكونهم من أصل إيراني، يعد دليلاً ثابتاً على انتهاج نظام البعث لسياسة التمييز الطائفي، فضلاً عن ذلك أن هذا النظام حرص كل الحرص على عدم وجود عناصر شيعية في مراكز اتخاذ القرار، أو المراكز الأمنية، بل كانت هناك وزارات ومؤسسات أمنية محرمة على الشيعة تماماً في عهد صدام، ومثالها وزارة الدفاع، ومديرية الأمن العامة، والمخابرات والأمن الخاص، إذ أسس الأخير شبكة الولاء الشخصي له من الأقارب والعشيرة، ومنحهم المناصب الحساسة في الدولة، بعد إعدام أعضاء بارزين من رفقاء الأمس؛ ليضمن عدم منافسة أحد، وحتى من حسب على الشيعة كان يُعطى مناصب هامشية غير مؤثرة، ويبقى تحت المراقبة الدائمة، وانتقل نظام البعث إلى مرحلة أعلى من مراحل ممارسة سياسة التمييز الطائفي، بإصدار قانون التهجير سيء الصيت، إذ تعرض مئات الآلاف من أبناء العراق الشيعة إلى النفي الجماعي، وصودت أملاكهم المنقولة، وغير المنقولة، وقد كان التسويغ الذي استند عليه النظام في عملية إخراج الشيعة المهجرين من العراق وحرمانهم من حقوق المواطنة، هو أنهم أناس متصلون تاريخياً ، وسيكولوجياً، واجتماعياً، واقتصادياً بوطنهم الأم (إيران).
علما أن التهجير شمل كل من يشك في ولائه للحزب والثورة، حتى لو كان يملك شهادة الجنسية العراقية، وإلى ذلك أشار (فاضل البراك) مدير الأمن العام آنذاك، وقد صدر القرار رقم (٦٦٦) الذي نص على: تسقط الجنسية العراقية عن كل شخص إذا تبیّن عدم ولائه للوطن، أو الحزب، أو الأهداف القومية والاجتماعية العليا لثورة تموز ، وهذا يعني أن كل الذين شملهم التهجير كانوا يمتلكون الوثائق اللازمة التي تثبت لهم حق المواطنة العراقية، إلا أن نظام البعث كان يَعد الولاء للحزب هو المقياس الأساس الذي تتحدد بموجبه تتحدد صفة المواطنة .
وامتدادا لتلك السياسة الطائفية التي لا تحتاج لإثباتات لأنها واضحة كان يشهدها الفرد العراقي في مفاصل حياته كافة، فقد أصدرت وزارة الداخلية قراراً دعت فيه إلى الفصل بين الأسر العراقية المهجرة وأولادهم، ضاربةً بذلك عرض الحائط نص المادة (١١) من الدستور العراقي المؤقت لعام ١٩٧٠، الذي نص على أن الأسرة نواة المجتمع ، وتتكفل الدولة بحمايتها وبدعمها، وترعى الأمومة والطفولة، وهذا القرار وغيره كثير يشير إلى أن أيدولوجية البعث تمتاز بوجود فجوة واسعة، وبون كبير بين التنظير العقائدي، والتطبيق العلمي، وأن الرغبة العارمة في التمييز الطائفي لا يوقفها دستور، أو ميثاق، أو إعلان عالمي لحقوق الإنسان.
والجدير ذكره أن ما يطلق عليهم بالتبعية الإيرانية تعود جذورهم إلى تعدادات السكان الأولى التي جرت مباشرة بعد سقوط الدولة العثمانية، فقد سئل سكان العراق الذين كانوا في ظل الانتداب أن يقرروا أصلهم، فاختار كثير من العراقيين الشيعة الاصل الإيراني، اعتقادا منهم أن ذلك سيعفيهم من التجنيد، إلا أن النظام اعتمد هذا الإجراء كأساس للتمييز الطائفي، ومنح لنفسه الحق في ممارسة سياسة تهجيرية بغيضة تقوم على أساس التمييز الطائفي.
وانطلاقا من سياسة التمییز الطائفي التي استند علیها نظام البعث، يذكر أحد الباحثين* أن السفير العراقي في دولة الصين (عيسى التكريتي) سئل ذات مرة: من هم الأكثر في العراق السنة أم الشيعة ؟ فأجاب التكريتي ان العجم أكثر من العرب في العراق، فٍسأله فلسطيني كان موجودا هل يعني أن الشيعة في العراق عجم؟ !، فأجابه بالإيجاب، وفي حالة الأخذ برأي السفير التكریتي الذي يمثل بطبيعة الحال فكر حزب البعث ومتبنياته، فإن الشيعة العرب يمثلون بحسب التقديرات آنذاك 55% من سكان العراق، وقد اتهمهم السفير بأنهم عجم، و18.5% أكراد من غير العرب، و8% أقليات، وما بقي من النسبة الكاملة هو 18.5 % وهي نسبة العرب في العراق، وفي هذه الحالة سيكون على العراق أن يتخلى عن كونه بلداً عربياً، وسوف يكون لإيران حق المطالبة به؛ لكون (٥٥ % ) من سكانه إيرانيين، وبالمنطق نفسه سيكون للأكراد الحق في مناصفة الحكم باعتبارهم يمثلون نسبة متقاربة مع السكان العرب، ومن هذا المنطلق الطائفي الأحمق تنبعث رائحة الطائفية التي يؤمن بها النظام.
وتأسيساً على ما تقدم يتضح أن فكر البعث المتمثل بشعاراته الوحدوية والعروبية لم يكن يعبر عن إرادة وطنية، أو رغبة صادقة في وحدة البلد، بقدر ما كانت طريقاً سهلا لاستحواذ سياسي على السلطة والاستئثار بها، وإقصاء المجموعات السكانية الأخرى من العرب ، والأكراد، والتركمان ، والأقليات الأخرى في إدارة شؤون الدولة، والمشاركة في الحكم .
ولأن النظام البعثي نظام يقوم على أساس التمييز الطائفي، وهيمنة أقلية طائفية على السلطة، واحتكار الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية؛ فقد سعى جاهداً إلى إخضاع الأغلبية واحتكار السلطة، وتمثل ذلك في تصفية كل المعارضين، ولاسيما أعضاء الحركات الإسلامية، وممارسة إجراءات صارمة على المؤسسة الدينية الشيعية، ومنع تصدير أفكارها، ومن تلك الممارسات إغلاق كلية الفقه الشيعية، وإلحاقها بالجامعة المستنصرية، وإخضاعها لبرنامج التعليم الحزبي الذي يشرف عليه بعثيون غير مسلمين أمثال (طارق حنا) وغيره، وألغيت كلية أصول الدين، والمدارس الشيعية في النجف وكربلاء.
أما الأماكن الدينية المقدسة للطائفة الشيعية؛ فقد وضعت تحت إشراف وزارة الأوقاف، الأمر الذي يتعارض مع الإرادة الروحية للشيعة التي استقلت بإرادتها واقتصاداتها على امتداد المراحل الزمنية، فلم تكن المرجعية الشيعية في يوم ما ذراعاً، أو مؤسسة خاضعة للدولة، وهو أمر أعطى للمرجعية مكانةً، وتميزاً، وبعداً روحياً كبيراً، ولم يكتف النظام بذلك، بل نصب سدنة بعثيين داخل المراقد المقدسة، ووضع فيها أماكن مخصصة لأجهزته الأمنية التي تولت مهمة المراقبة و التنصت.
ويلحظ جلياً أن ادارة وزارة الأوقاف لم تسند إلى شيعي قط خلال حكم البعث، وكذلك مديرياتها العامة، ولم يكن يسمح للعراقيين الشيعة أن يكونوا موظفين فيها حتى الدرجة الخامسة، وفرض النظام حظراً على جميع المجلات الإسلامية التي كانت تصدر في النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، ومنها على سبيل المثال مجلة الأضواء، ونداء الإسلام، وصوت التوحيد وغیرها.
* حسن العلوي في كتابه الشيعة والدولة القومية في العراق، دار الثقافة للطباعة والنشر، قم،1990، ص47.