اسم الكاتب : علي ثويني
يمكن ان تكون ثورة 14 تموز الحدث العراقي الجلل الذي مازال يكتنفه اللغط وتثار حوله الشكوك والتأويلات ، وبالنتيجة فلم يتفق عليه أصحاب الشان. وهكذا مر نصف قرن ولم يبت بالأمر، وتقاذفه شطط الآراء دون إجماع أوإنتهاء.والأمر في الجوهر عائد الى كون الثورة لم تشكل نهاية مطاف أو تحسم أمر بعينه بل كانت حلقة في سلسلة صراعات مستمرة الى اليوم وتدوم حتى يوم الدين.
الصحف الأردنية صدرت معزية العائلة الهاشمية رياءا والصحف القومية دجلت كما سليقتها في الإنحراف الذي احدثه الزعيم عبدالكريم (الدكتاتور)، الذي أضاع نصاب الوحدة العربية التي لم يحققوها دول وشعوب خلال قرن ، أما الشيوعيون فما زالوا يتأسون على فرصة أضاعوها ويرمون السبب على كاهل الزعيم قاسم ولم يعترفوا بخيباتهم مثل كل مرة. والإسلاميون صنفان “سنتهم” غازلو القوميين العرب وشيعتهم شكلو مثل كل مرة طبقين، فسوادهم بكوا الثورة كونهم كانوا أهلها ووقودها والمستفيد منها، ومعمميهم المرتبطين بإيران وجدوا لها تأويل غيبي بأن الله سخط و أنزل نازلته نزولا عند دعاء محسن الحكيم، ونتذكر السيد إسماعيل الصدر وهو يخطب في الكاظمية حينما رفع عمامته السوداء صارخا في الجموع (هذه العمائم هي التي أسقطت عبدالكريم قاسم).
ومن أكثر الشامتين بالثورة كان الرعيل التركي الذي جاء به الملك فيصل الأول من جبهات القتال السلطانية،وتسنى له أن يحصل على كعكة العراق بإتفاق “جنتلمان” بينهم وبين العروبيين الذين أزدروا عرب العراق وصنفوهم فرس ،بالرغم من أن ساطع الحصري منظرهم ورائدهم عاش يلحن العربية و ألثع وجاهل بها.ولا ننسى موقف كامل الجادرجي من الثورة الذي كان مخلصا للبيوتات التي أنتسب إليها. وهكذا كان الأمر يتعلق بصراع بداوات أزلي على الوادي الأخضر قفزا فوق أهله بين رعويي الأتراك والعرب والفرس والأنكليز على قضمه غنيمة ، و تم خلالها تقاسمها بين الأنكليز من جهة والعرب-الأتراك من جهة أخرى، وحرم “الفرس” منها، الذين ألحق بهم عنوة سواد العراقيين.ولا يغرنكم المسميات المتشدقة بالقيم فكلها والله إلا رياء مبطن.
أما أهل العراق “الذي صنفوا فرس” فقد كانوا حطب ووقود التناحرات وغرر بهم لينحازوا ولا يحتازوا، و مكث العراقي يعاني الفاقة، ويذكر أهلنا سنوات الأربعينات والخمسينات العجاف حينما تركوا الأرض وجاءوا يقتاتون على ما ترميه لهم هوامش المدينة المتبغددة. ولم يكن يدور في خلدهم أنهم حسام الصراع وصلبه،و حسبوا مثلما سوغ لهم خلال قرون بأن ليس لهم في الكعكة حصة وهزجوا لأربعة قرون كل صباح (صاح الديك بالبستان الله ينصر السلطان) والسلطان وكلابه من أغوات وشيوخ ومتنفذين ومماليك ومعممين يتبولون عليهم.
لو أحصينا عدد من خرج في تظاهرة التأييد للثورة التي لم تشهد بغداد مثيل لها لوجدت أن 90% من هؤلاء هم أهل الهامش إياهم، وحسبهم أن المهدي المنتظر قد ظهر، وها هي أيام العدل والقسطاس سوف تعم وهاهو ليل الجور والطغيان ولى دون رجعة. أما الصادقون من نخب ما يدعى “اليسار” فقد أنقادوا بخيالهم الى مهدوية ماركس حينما بشر بيوم البروليتاريا الموعود، أما العروبيون، فقد وجدوها مناسبة للإجهاز على الفريسة وهي تترنح، ودغدغت خيالاتهم غنيمة سانحة لايمكن التماهل عنها ، فكان الإمتعاض العروبي من اليوم الأول للثورة.وكانت نتيجتها شعار(نفط العرب للعرب) دون العراقيين وهو ما لم يتخذه أحد لاقبلهم ولابعدهم.
وهكذا وجد هؤلاء أنفسهم بغايات ووسائل متناقضة، فحدث بينهم التحالف ،فكان العروبيون عرابهم عبدالناصر و القوميون الأكراد عرابهم برزاني أما المعممين الشيعة فكان عرابهم محسن الطباطبائي الحكيم وكان الباري والسخي في التمويل والمسير وكالة (CIA) الرؤوم على مصالح الشعوب،وأعانهم على “فعل الخير” جمعية أمراء الكويت ، والسعودية كون قوانين الثورة جاءت “هدامة” لنظم القرون الوسطى،والحال عينه ينطبق على إيران التي خشيت وقوف العراق على أقدامه، فكان شاه إيران يمول محسن الحكيم والبرزاني على حد سواء. ومن سخرية القدر أن الشيوعيين محبي السوفيت المخلصين لدينهم، أرتضوا أن ينقلبوا على الزعيم قاسم ويعلنوا إمتعاضهم بعد أن أوعز لهم رفاقهم هناك ، بعد أن تم مقايضة (برلين-بغداد) على نفس مبدا (سايكس-بيكو) الذي فضحه لينين، وطبقه رفاقه بعد حين.
وغير هؤلاء جميعا فقد تناقلت ألسنة العامة في بغداد بأن ثمة أعداء كانوا يلعبون دورا مؤثرا في الإجهاز على ثورة تموز وهم رواد ومستخدمي مواخير الصابونجية والميدان التي أغلقت الثورة مصادر “رزقهم” وهجمت بيوتهم ، والآخرين هم رواد سباق الخيل”الريسز” الذين مكثوا دون كسب بعدما أغلقت الثورة بؤرة عبثهم.
وهكذا رأينا صورة سوريالية مكثت في العقل قبل النقل وسفيه أخبار المدبجين والمنظرين، فيها العجب العجاب.. خندق واحد قد أصطف في كنفه رهط من الرعيل الملكي وجنبهم القوميين الأكراد و الملا برزاني صاحب “الحمية العراقية” ، وبجنبه رعيل عبدالناصر ومبعوثي شركات النفط وأمراء الكويت وملوك السعودية وشاه إيران ومعهم ودون خجل محسن الطابطبائي أبو عبدالعزيز الحكيم وجد عمار رعاهم الله الى يوم الدين، وبجنب هؤلاء وقفت حسنة ملص وعباس بيزه القادمين من مواخير الميدان وأبو هيله القادم من ريسز المنصور.
و سقط عبدالكريم قاسم متضرجا بدم الشهادة ماسوف على الثورة وعليه كشخص نبيل ومنزه وأندثرت الثورة وأمست مشاع يعبث بها الريح وتتبع الأهواء . ومن الجدير التذكر به كل مرة أن أصحاب الخندق هنئوا بعضهم البعض ،فوصلت أول برقيات التأييد ” للثوار” من مصطفى البرزاني ومحسن الحكيم وخرجت جموع مدينة السليمانية تهتف (أنتصرنا..أنتصرنا)، وعين أهوج طائفي يدعى عبدالسلام (سموه أهل العراق عدو السلام)”توددا” وكان ينوي إعلان الوحدة العربية من أجل (جعل الشيعة أقلية في دولة الوحدة). ثم دارت الأيام عليه وصعد لحم ونزل فحم بنفس سيناريو عدنان خيرالله وضياء الحق وغيرهم. ثم عاد البعثيين ونصبوا خروفا يدعى البكر “حديدة عن الطنطل” وأستلموا الإشارات الخفية بالشفرة من وراء الحدود ،وسيروا العراق برعونه، ومكث حراس قبور أجدادهمكما ديدنهم القربان والوقود لمذبح الرياء، ثم ورث البعثيون طائعين صاغرين لأسيادهم الأمريكان الذين عينوا سلطة المنطقة الخضراء حمية لمظالم وإحقاق لحقوق”الشيعة” و”الأكراد”.
وهكذا ياكرام فأن ثورة تموز لم تكن إلا معركة واحدة خاسرة في حرب طويلة من أجل إسترجاع أهل العراق وسدنة أرضه وخيراته حقهم في بيتهم حتى لو طال الزمن. وأن أعداء العراق من بيوتات أسقطت بالأمس سلطة ثورة تموز،هي، هي نفسها موجودة اليوم تحتمي في قلعة المنطقة الخضراء بدجل ودون خجل، وهي نفسها أستشعرت الخطر الداهم حينما اشاع إبن كيفية العراقية القسطاس والمواطنة و”دولة الناس”. وهم اليوم أصحاب المصلحة الحقيقية في ضياع العراق وكبح مسيرة بناء سلطة الجموع والمركز الضارب المهيمن القادر على الذود والحماية والملتزم بالقيم والنزاهة. وهكذا جاء الأمريكان وفصلوا ما فصلته بالأمس الخاتون بيل وقسموا العراق الى طوائف وأقوام وأرومات تتناحر مثل الكلاب على عظم واه ليمروا هم بالغنيمة الكبرى.
الحرب مع هؤلاء ياكرام لم تنته ، وان خسارتنا كعراقيين لمعركة لا ضير فيها، وليس لنا ما نفقده بعدما فقدنا الكثير وهكذا فأن جذوة الصراع مع المستحوذين لحقنا في الوجود وتحت الشمس مازال قائم الى يوم الدين ولنا معهم جولات قادمة،ولكن يجب أن يتعظ أهل الدار مما غرر بهم وليتوحدوا دون أقوام وطوائف وعشائر وجهويات، من أجل تقويض حلم هؤلاء ومن ورائهم.