اسم الكاتب : امينة خيري
خفتت أصوات جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أرض الواقع بينما تحاول ممارسة سلطتها في الفضاء الإلكتروني .
تدوينات رواد التواصل الاجتماعي تحت مرصد من يولون أنفسهم أوصياء على الدين (غيتي)
صورة فوتوغرافية متداولة لما يفترض أنه مدرسة إعدادية أو ثانوية للفتيات في مصر تكاد تفجر أثير التعليقات والتدوينات والتغريدات على منصات الـ”سوشال ميديا“. الصورة لطالبات يرتدي جميعهن دون استثناء الخمار الأبيض مع جلابيب زرقاء قاتمة في فناء المدرسة، وتظهر الطالبة “المميزة” الموكلة لها مهمة ما يبدو إنه “إذاعة المدرسة” ترتدي نقاباً صارماً حيث لا يدع مجالاً حتى لعينيها أن تظهرا.
الصورة يتداولها فريق الباكين على ما يسمونه “مدنية الدولة” الحالمين بما يفصل الدين عن مظاهر الحياة اليومية، معتبرين أن انتشار الأزياء الدينية بشكل واسع و”إجبار” الفتيات على ارتداء الحجاب والخمار في المدارس قهراً وعدواناً على العقل ودهساً للتنوير.
وحسبما تنص قوانين الـ”سوشال ميديا” الشعبية، فإن ما يتداوله فريق باعتباره شراً مطلقاً وظلماً بيناً ما هو إلا خير كامل وعدل شامل للفريق الآخر، والعكس صحيح.
في عام 2007، أي في السنوات الأولى لبزوغ عصر منصات التواصل الاجتماعي، قامت الدنيا في ألمانيا واندهش الجميع حين صممت مجموعة من الطلاب الجامعيين موقعاً إلكترونياً يستخدمه طلاب المدارس لتقييم أداء معلميهم، اندهش الألمان لأن مثل هذا الموقع الذي لاقى صدى كبيراً بين طلاب المدارس مثل بالنسبة إليهم نهاية عصر احتكار المعلمين لمنظومة التقييم، وأصبح التقييم متبادلاً.
ثار المعلمون وأعلنوا غضبهم واعتراضهم، لا اعتراضاً على وسيلة التقييم، أو حتى لأن الطلاب هم من يقيمونهم، ولكن لأن التقييم علني.
مضت سنوات تبدو قليلة، لكنها في دستور العصر الرقمي كثيرة وطويلة. وأصبح في إمكان نحو ستة مليارات شخص حول العالم، من إجمالي ثمانية مليارات شخص هم مجموع سكان العالم، أن يقيم كل منهم ما يكتبه أو يذيعه أو يصوره أو يعلق عليه الآخرون.
حزمة سلوكية رقمية
صورة الطالبات المحجبات والمنتقبات المتداولة عنكبوتياً نموذج لحزمة سلوكية وأخلاقية واجتماعية تتوسع وتتمدد على أثير التواصل الاجتماعي بشكل غير مسبوق، هذه الحزمة تحولت من إبداء الرأي أو التعليق أو المشاركة لتصبح تأديباً وتقويماً وتقييماً وبعضها يصل إلى ما يشبه ما كانت تقوم به جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمطوعون.
“مطوعو الإنترنت” أصبح توصيفاً شارحاً لنفسه، أحدث استخدامات صورة الطالبات المحجبات والمنتقبات كانت من قبل شخص على “فيسبوك” وضعها أحدهم مع تدوينة مقتضبة “مدرسة في مصر. لك الله يا مصر”. وما هي إلا دقائق حتى اتخذ المعلقون مراكزهم خلف المتاريس وأشهروا أسلحتهم استعداداً للهجوم المضاد.
بؤس عظيم أو خير كبير
الفريق المعارض لما يسمونه “أسلمة الدولة” أو “تديين الفضاء العام” أو “قهر النساء باسم الدين” لم يدخر جهداً في وصف الصورة بـ”البؤس العظيم” و”الحزن العميق” و”الظلام الدامس”، ومنهم من سارع لنشر صور مصر ما قبل موجة تدين سبعينيات القرن الماضي من حفلات أم كلثوم وجمهور بلا حجاب، وشواطئ الإسكندرية ومصطافات دون بوركيني أو جلباب، وشوارع وسط القاهرة بلا خمار أو نقاب أو شبشب، فقط فساتين وأحذية أنيقة وتسريحات شعر منسقة. الفريق الآخر استشعر المقصود من نشر الصورة، فاتخذ اللازم من ذخائر قرآنية وأحاديث نبوية للتلويح بها في وجوه الفريق “المنفلت” حيث المعترض على الصورة يتحول إلى معترض على القرآن والسنة. آخرون من الفريق نفسه استدعوا متلازمة الحجاب في مقابل البيكيني، حيث المعترض على الزي الديني حتماً يطالب بتعميمه إلى آخر منظومة الدفاع الهجومي.
منظومة الدفاع الهجومي ذائعة الصيت على منصات التواصل الاجتماعي آخذة في تمدد وتوسع الرقيب الديني (أ ف ب)
منظومة الدفاع الهجومي
منظومة الدفاع الهجومي ذائعة الصيت على منصات التواصل الاجتماعي آخذة في التمدد والتوسع، وبحسب أحدث الإحصاءات المتوافرة حول متوسط الوقت الذي يمضيه البشر حول العالم وهم مثبتون أمام شاشاتهم المتصلة بـ”السوشال ميديا”، يمضي كل من المليارات الستة المتصلة بالإنترنت نحو 147 دقيقة يومياً على الأثير الاجتماعي، وهي المدة الأطول منذ ابتكار منصاته على الإطلاق، بحسب موقع “ستاتيستا” المتخصص في الإحصاءات وبحوث الإنترنت.
لكن هذه الدقائق مجرد متوسط، ففي نيجيريا مثلاً يمضي الشخص نحو أربع ساعات يومياً غارقاً في صفحاته وصفحات الآخرين على التواصل الاجتماعي، هذا الغرق في صفحات الغير بات يهمين عليه الحكم على الآخرين وتقييمهم وتقويمهم وأخيراً القيام بدور الناهي عن المنكر والآمر بالمعروف وإن استلزم ذلك الشتم أو الاتهام أو التهديد والوعيد بعذابات ومعاناة وعقاب ووعد بنار جهنم والحرق والتعذيب لمن لا يمتثل للتقويم والتأديب على الأثير.
مطوعو الإنترنت
قدر غير قليل مما تموج به منصات التواصل الاجتماعي حالياً من تقويم وتأديب ونهي عن المنكر سببه أن “مطوعي الإنترنت” و”المقومين الرقميين” مقيمون على أثير الـ”سوشال ميديا” يمضون وقتاً طويلاً في البحث والتدقيق في ما يكتبه وينشره غيرهم، لا بهدف القراءة والاطلاع والاستفادة وتبادل وجهات النظر، ولكن بغرض “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
أستاذة علم النفس الأميركية غوندولين سيدمان تقول في بحث لها عنوانه “كيف يطلق آخرون الأحكام علينا أون لاين؟”، “على أغلبنا أن يعترف بأننا نمضي الجزء الأكبر من الوقت في تصفح ما يكتبه الأصدقاء، وغالباً نصدر أحكاماً عليهم بناء على ما يكتبون، سواء كانت أحكاماً إيجابية أو سلبية”.
إيجابية الأحكام المطلقة على أثير منصات التواصل الاجتماعي أو سلبيتها شائعة في شتى أرجاء العالم.
يكتب بريطاني مؤيداً للعائلة المالكة فينعته صديق بأنه كاره للديمقراطية. يغرد أوكراني مطالباً بخروج القوات الروسية فوراً من بلاده، فيجد من يخاطبه باعتباره من النازيين الجدد. يكتب أميركي أن فترة رئاسة ترمب تركت آثاراً سيئة في السلام الاجتماعي في المجتمع الأميركي، فيسارع أحدهم ليتهمه بأنه يريد أن يقدم أميركا على طبق من فضة لمجموعات من اللاجئين القادمين من دول متخلفة يتقاضون أموال ضرائبه، وهلم جرا.
الويل للتدوينات والهلاك للتغريدات
ما يدور على أثير التواصل الاجتماعي في أي مجتمع انعكاس لما يدور في داخله، إن لم يكن علناً في الشارع فسراً في القلوب والعقول، وفي هذا الجزء من العالم، حيث متلازمة الدين أم الدنيا، وهل أحدهما يفسد الآخر بالضرورة تموج منصات التواصل الاجتماعي بكم مذهل من المحتوى إما المطالب بفصل الدين عن الدنيا، أو العودة بالدين ليكون شأناً خاصاً بصاحبه، أو مزيد من الإغراق في جعل الدين بحسب تفسيرات بعينها والتدين بتعريفه الشعبوي القائم على مظاهر وطقوس بعينها توأم ملتصق يحمله المواطن أينما ذهب، وإن لم يحمله فالويل لتدويناته والهلاك لتغريداته والدمار لفيديوهاته والعذاب الأليم والمستقر المستدام له في جهنم وبئس المصير.
مصير أي محتوى يحوي رأياً أو وجهة نظر أو توجهاً ينشر على منصات الـ”سوشال ميديا” وفيه رائحة أو نكهة أو مذاق يختلف ولو قليلاً عن النسخة السائدة من التدين الشعبي.
الدين والتدين
ويشار في هذا الصدد إلى أن الدين يختلف عن التدين وكلاهما يختلف عن التدين الشعبي، الباحث المغربي في علم الاجتماع زكرياء مزواري يشير في كتابه “التدين الشعبي والتغير الاجتماعي في المغرب” (2020) إلى أن “الدين هو مجموع التصورات والمعتقدات التي تحمل رؤية عامة وشاملة للعالم، ويكون غير قابل للضبط أو القياس أو المقاربة الموضوعية، أما التدين فهو البعد الاجتماعي التطبيقي للدين حسبما يفسره أشخاص يقومون بوضع معان ودلالات وقواعد اجتماعية لهذا الدين، ويوصف من ينتهجها بـ(المتدين) ومن لا يفعل بـ(غير المتدين)”.
ويشير مزواري إلى أن مصطلح “الشعبي” يعني تصنيفاً لأنماط التدين وتجلياته المختلفة، ويرى أن التدين الشعبي يكون عادة “ذلك المزيج من المعتقدات التي تتشكل بتراكم التاريخ، والتدين الشعبي يكون عادة دمجاً لعناصر مشتركة من ديانات مختلفة موجودة في منطقة جغرافية بعينها”.
القرب الجغرافي والبعد الأيديولوجي
جغرافياً، قد تكون المسافة الفاصلة بين صديقين مدونين أو مغردين أو مستخدمين لأي من منصات التواصل الاجتماعي أمتاراً قليلة، لكن المسافة الفكرية والتأثرات الأيديولوجية والفكرية والاجتماعية والثقافية وضمن مكوناتها الدينيون تقدر بآلاف الكيلومترات.