اسم الكاتب : عطية مسوح
الأمة الناهضة لا تنشغل كثيراً بمشكلة الهوية، لأن نهضتها هي إثبات لشخصيتها وتأكيد لذاتها. أما سؤال الهوية فهو يطرح حين تكون الأمة مشتتة موهنة وفريسة بين أنياب الأقوياء، فهو إذاً سؤال الضعيف الذي يرفض ضعفه ويبحث عن سبل تجاوزه.
لذلك يمكن أن نقول إنّ طرح سؤال الهويّة في ثقافتنا الحديثة، هو دليل سوء واقعنا من جهة، وتطلّعنا إلى النهوض من جهة ثانية.
وتتنوّع اتجاهات الباحثين العرب في مشكلة الهوية، لكن الأكثر بروزاً بينها هو تلمّس عناصر هويتنا في الماضي. وأخطر ما في هذا الاتجاه هو الوصول إلى أنّ سبيل النهوض العربيّ هو العودة إلى الماضي واتّباع خُطا
الأسلاف.
وهذا يعني أنّ حاملي هذه القناعة يبحثون عن هويتنا في الماضي، في الموروث لا في الحاضر المعيش، أي بعيداً عن العصر وإيقاعاته ومقتضياته ومتطلّبات الحياة فيه.
وحين أدعو إلى تلمّس عناصر هويّتنا في الحاضر لا في الماضي، فإنّني أتفق مع من يرون أنّ الهويّة ليست ثابتة ولا متكوّنة ولا مطلقة، بل هي في تكوّن مستمر. وإذا توهّم شعب أو جماعة أنّه مكتمل الهويّة، فإنّه يحكم على نفسه بالجمود والعزلة والخروج من دائرة الفعل والتأثير في العلاقات الإنسانيّة والعجز عن التقدّم. ولكن كيف نتلمّس عناصر هويّتنا في الحاضر؟ هنا لا بدّ لنا من البحث في عناصر الهويّة. توصلنا الدراسة المتأنّية إلى أنّ عناصر الهويّة نوعان: موروث ومكتسب.
وأهمّ العناصر الموروثة ثلاثة: القوميّة والدين والطائفة، أمّا المكتسبة فهي كثيرة، ويغلب عليها الطابع الفرديّ، منها الانتماء السياسيّ أو الفكريّ، ومنها الحالة الثقافيّة ومستوى التعليم، والمهنة، والانتماء الريفيّ أو المدنيّ.. وغير ذلك. قد يظنّ المرء أو الباحث، أنّ العناصر الفرديّة المكتسبة أقلّ أهمّيّة من الموروثة في تكوين الهويّة، ولكنّني أرى غير ذلك، فللفرديّة دورها في تحديد المواقف والخيارات، وكلّما تقدّم المجتمع ازدادت حقوق الأفراد وأدوارهم حضوراً وتأثيراً. صحيح أنّ دور الفرد شديد التأثّر بخصائص البيئة، إلاّ أنّه ليس خاضعاً لها بالمطلق، والذين يصنعون أو يقودون النهضة في مختلف المجالات هم أفراد أدركوا احتياجات الأمة وتجاوبوا معها وكرّسوا
نشاطهم لها.
وثمّة أمثلة كثيرة على أهمّيّة دور الفرد، فالنهضة كانت حاجة موضوعيّة ملحّة في مصر في أوائل القرن التاسع عشر، لكنّ شخصيّة الحاكم محمد علي التقطت تلك الحاجة وعملت لتحقيقها، كما أنّ الإفادة من الفكر الغربيّ وتجربة الغرب كانت ضروريّة أيضاً، لكنّ شخصيّة رفاعة الطهطاوي كانت مؤهّلة ذهنيّاً ونفسيّاً لتمثّل التجربة السياسيّة والفكريّة الغربيّة، والتأسيس لنهضة فكريّة وثقافيّة وسياسيّة، فكان أباً لأجيال من المفكّرين النهضويّين الذين تابعوا طريقه في مختلف الأقطار العربية. ويسوقنا هذا إلى استنتاج يُنكره معظم الباحثين، وهو أنّ الهويّة الواحدة لشعب أو أمّة هي أقرب إلى أن تكون وهماً، أو فيها من الوهم أكثر مما فيها من الحقيقة. ففي “الهويّة الواحدة” التي تحدّدها العناصر الموروثة يجد الباحث مجموعة من الهويّات الأضيق، هي الأكثر تأثيراً وأهمية من الناحية الواقعية.
وأبرز نقاط الضعف في معظم أبحاث الهويّة عندنا هو إهمالُ العناصر المكتسبة والفرديّة والتركيز على عنصر أو أكثر من العناصر الموروثة العامة. فكثيراً ما نجد تغليب عنصر الدين في تحديد الهويّة، وفي هذا التغليب ثلاث نقاط ضعف، الأولى أنه يعطي الهويّة بعداً ماضويّاً، فيؤثر سلبياً على اغتنائها بمعطيات العصر.
الثانية هي أنه يضيّق دلالة المفهوم من حيث يعتقد أنه يوسّعها، فالهوية الدينيّة لا تلبث أن تتحوّل إلى هوية مذهبية طائفية.
والثالثة أنه يخفي (هوية المصالح) التي تتجاوز الهويتين الدينية والقومية، وأهم الأمثلة على ذلك هو أن الهوية الدينية الواحدة لم تستطع منع الحربين العالميتين، أو حروباً كثيرة بين دول يجمعها الدين ومنها دول عربيّة. ونجد نقاط الضعف ذاتها حين تُعتبر القومية أساساً في تحديد الهوية.
وبطبيعة الحال فإنّ عناصر الهوية الموروثة هي عناصر لا إرادية، لا يد للإنسان في اختيارها، ولا يستطيع تبديلها. أمّا العناصر المكتسبة فهي إرادية اختيارية قابلة للتبدل والاغتناء بالمعطيات الجديدة، لذلك فإن دور العقل والإرادة في أخذها وتحديد أثرها دور قويّ.
واستناداً إلى ذلك يمكن أن نستنتج أنّه كلما ازداد تأثير العناصر المكتسبة على الهوية وقلّ تأثير العناصر الموروثة ارتفع مستوى العقلانية في المجتمع، والعكس صحيح.
وانطلاقاً من أنّ الهوية في حالة تكوّن مستمرّ، وأنّ القول باكتمالها وثباتها هو وهم ضارّ، يمكن أن نستنتج أنه كلما ازداد تأثير العناصر المكتسبة على حساب العناصر الموروثة كانت الهوية أكثر حيوية وقدرة على الاستمرار في التكوّن والبعد عن الجمود.
نخلص إلى القول إننا في حاجة لإعادة النظر في فهم الهوية باتجاه يمنحها حيوية وفاعلية، وذلك بتغليب دور العناصر المكتسبة على العناصر الموروثة في هويتنا، وتعظيم شأن الثقافات المعاصرة في إغنائها، وبذلك تكون هويتنا معنا لا وراءنا، نضيؤها بالحداثة والمعاصرة فتضيء لنا دروب النهضة.