نوفمبر 23, 2024
6dd0d2f138c2c687355279566290fffe

اسم الكاتب : الاستاذ سعدي ابراهيم حسن والدكتور خضر عباس عطوان

لم يكن واردا في اذهان ابناء المجتمعات البشرية في بداية ظهور ما اصبح يعرف بالدولة القومية ، من ان هذه الدولة ستكون على حساب ولائهم الفطري للدين ، او للعشيرة ، او للاصل والنسب المشترك ، وما ان ادركوا هذه الحقيقة حتى اخذوا يقاومونها في البداية ولكنهم مع مرور الزمن ونتيجة للخطوات المبرمجة والمدروسة التي قامت بها هذه الدول تحولوا عن ولاءاتهم القديمة لصالح الدولة ، أو على الاقل وزعوها مابين الدين ، والقومية ، والقبيلة والعشيرة ، والدولة الجديدة . إن هذا التحول في الولاء الذي حظيت به الكثير من دول العالم نتج عنه تكوين ما اخذ يعرف فيما بعد بـ (الهوية الوطنية) والتي تعني من ضمن ما تعنيه بأنها المشتركات المادية والمعنوية التي يشترك بها شعب من الشعوب ، والتي تميزه عن غيره من الشعوب الاخرى ، والانسان الذي يتمتع بالهوية الوطنية من المفترض خصوصا في الدول التي توصف بالديمقراطية ان يتمتع بصفة المواطنة التي هي عبارة عن العــلاقة المتوازنة بين الفرد والدولة ، علاقة اداء الواجبات من قبل المواطن ، واعطاء الحقوق من قبل الدولة . لم تنجح اغلب دول العالم ، خصوصا غير المتقدمة منها ، في اكمال بناء هويتها الوطنية بل أن معظمها لازالت تعيش مخاض ولادتها ، إذ أن الهويات الفـرعية بارزة فيها الى درجة أنها قد تطغا او تنافس هويتها الوطنية . إن رفض بعض المجتمعات التخلي عن هوياتها الفرعية قد دفع العديد من الدول الى اتباع اساليب متعددة من أجل ضمان ولاء مواطنيها الكامل ، ومن هذه الاساليب هو اسلوب النظام الاتحادي ، والذي يقصد به تقسيم البلاد الى عدة اقاليم ترأسها حكومات اقليمية ومحلية تتمتع ببعض الصلاحيات تختلف هي وطريقة تشكيل الاقاليم وحدودها ، والاسس التي تقوم عليها من دولة الى اخرى . ومثل بقية دول العالم الاخرى قامت الدولة العراقية في العشرينيات من القرن الماضي ، وبالرغم من الاساليب العديدة التي اتبعتها المؤسسات السياسية الحاكمة من اجل اخذ الدولة باتجاه تعزيز المشتركات التي تربط العراقيين وتحويل هويتهم الجامعة الى هوية للدولة الجديدة ، الا أن هناك من يرى بانها لم تصل الى الدرجة التي يكون فيها ولاء المواطن العراقي خالصا للدولة ويعتقد بأن الولاء الفرعي للدين أو القومية او القبيلة والعشيرة بقي منافسا لها . أن هذا الرأي كان غير صحيح من وجهة نظر الكثير من العراقيين ، فبالنسبة لهم تعد الهوية الوطنية العراقية هي التي انتجت الدولة بنظاميها الملكي عام (1921) والجمهوري عام (1958) ، وان مواقف العراقيين التي عبروا عنها سواء أكانت بدفاعهم عن العراق ايام الاحتلال البريطاني لبلدهم ، أم في وقفتهم الوطنية اثناء حرب العراق المباشرة مع ايران كلها ادلة ساطعة على ان الهوية الوطنية العراقية بخير وانها تتعزز يوما بعد اخر ، اما مسألة تبني الدولة لها فان عمر الهوية العراقية اقدم من عمر الدولة بالآف السنين ، وبالتالي فأن عملية تبنيها من قبل الدولة العراقية لايمكن ان يتم بين ليلة وضحاها بل ان عملية التزاوج بين الهوية العراقية والدولة التي انطلقت مع تشكيل الدولة عام (1921) كان من المفترض ان تستمر، وقد يتطلب الاندماج الكامل بين الهوية العراقية والدولة عقودا ، او حتى قرونا من الزمن . بينما ترى جهات دولية عدة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية أن العراق مجموعة مكونات ربطها الانتداب البريطاني بعضها ببعضٍ معطيا الاولية في ادارة الدولة الجديدة التي تشكلت عام (1921) الى أحد هذه المكونات ، وأن الاحداث التي اعقبت ازمة وحرب الخليج الثانية (1990/1991) ، والمتمثلة بسلوكيات الخروج على سلطة الدولة في بعض مدن العراق وبقاء بعضها الاخر مؤيدا لها هو دليل على فشل الانظمة السياسية في بناء هوية وطنية عراقية مميزة . لم تكن الولايات المتحدة منفردةً في وجهة نظرها هذه ، بل ان قوى سياسية عراقية عدة ضمن ما اطلق عليه في حينها بالمعارضة العراقية اكدت ايضا ان النظام السياسي العراقي السابق لايمثل الا فئة او مكوناً من مكونات الشعب العــراقي ، وان ذلك النظام استمد ولاءه وبقاءه في السلطة عن طريق القوة والقسر . وبينما اكتفى النظام العراقي السابق بتعداد المنجزات التي حققها في العراق والقول بان كل تمرد او معارضة تحدث في هذا البلد هي اما بفعل تدخل خارجي او خيانة داخلية ، او محاولة للانفصال . كان الطرف الثاني المتمثل بالولايات المتحدة الامريكية وخلفها المعارضة تسير باتجاه تطبيق وجهة نظرها على ارض الواقع ، أذ عٌدت الولايات المتحدة بان العراق لا يمتلك هوية وطنية بل هناك ثلاث هويات يسيطر عليها نظام ينتمي لأحدها ، وان باقي المكونات هي مكونات لا تدين بالولاء للدولة العراقية بل هي مكونات لها هوياتها الخاصة بها ، وهكذا اتخذت الولايات المتحدة من فرضية هوية العراق الممزقة سببا لفرض ما عرف في حينها بمناطق حظر الطيران التي قسُم العــراق بموجبها الى ثلاثة اقسام بحسب الهويات الفرعية الرئيسة التي افترضت الولايات المتحدة بانها غير مندمجة احداها في شمال العراق والاخرى في جنوبه والثالثة في الوسط . لم تكتفْ الولايات المتحدة بعزل مناطق العراق بعضها عن بعض من خلال القوة العسكرية المتمثلة بحظر الطيران ، بل لقد اتفقت مع القوى السياسية المعارضة في الخارج من اجل تحويل هذه التقسيم الافتراضي الى حقيقة دائمة و أوعزت اليها المطالبة بتطبيق النظام الاتحادي على طوال الفواصل الافتراضية الثلاثة ، ومنذ ذلك الحين اصبح الحديث عن ازمة الهوية الوطنية العراقية واطروحة النظام الاتحادي الشغل الشاغل للمعارضة العراقية ، والتي كانت تعقد مؤتمراتها برعاية الولايات المتحدة الامريكية المباشرة . واذا كانت اغلبية تلك القوى السياسية المعارضة بقيت تنتظر اللحظة التي تدخل فيها الولايات المتحدة الى العراق لكي تنفذ مشاريعها فيه ، فأن المعارضة العراقية الكردية قد استغلت الظروف التي اعقبت خروج الجيش العراقي من الكويت باعلان تطبيق النظام الاتحادي في شمال العراق ومن جانب واحد عام (1992) ، اي من دون اذن الحكومة المركزية في بغداد ، عن طريق اعلان تشكيل اقليم واجراء انتخابات محلية اسفرت عن تشكيل السلطـات الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) . لم تخلف الولايات المتحدة الامريكية اتفاقياتها السابقة مع القوى السياسية العــراقية المعارضة في الخارج ، بل انها اوفت بوعودها بعد نيسان عام (2003) ، إذ سلمت هذه القوى فور احتلالها للعراق زمام السلطة فيه ، لتنتقل هذه القوى السياسية من مرحلة الحديث عن اطروحة النظام الاتحادي التي كانت تتداولها في الخارج الى مرحلة تشريع هذا النظام وصولا الى تطبيقه بعد احتلاله ، في وقت اصبحت فيه الهوية الوطنية العراقية ضعيفة ومهمشة بفعل سياسات الاحتلال ، التي اعلت من شأن الهويات الفرعية على حسابها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *