اسم الكاتب : د.علي عبد داود الزكي
تأسست دولة العراق الحديث في بدايات القرن العشرين على ايدي الاحتلال البريطاني بعد خسارة الدولة العثمانية الحرب العالمية الاولى. حيث توجه المحتل البريطاني الى التأسيس لعراق مستقل عن تركيا لكنه عراقا ممزق الهوية ولا يوجد فيه تلاحم وتاصر حول قدسية انتماء جامعة لكل مكوناته العرقية والدينة والطائفية. ان فكر الانسان العراقي في تلك المرحلة لم يكن متطورا لما يسمى بالمفهوم الوطني العراقي او القومي العربي وذلك لان الشعب العراقي كان يعيش في ظل حكم خلافة اسلامية عثمانية. ان الدولة العثمانية مجتمعها مكون من اعراق مختلفة لذللكم يكن العراقي بحاجة الى هوية انتماء تمييزه لدرجة قدسية اعلى من قدسية الانتماء للدولة الاسلامية. كما ان الصراعات العرقية كانت شبه معدومة بين مكونات الدولة العثمانية. كان العراق كاقليم تابع للخلافة العثمانية لعدة مئات من السنين ولم يبرز فيه مفكرين يسعون لتكريس هويته الوطنية بل كان المفهوم السائد فيه هو مفهوم الصراع العشائري فقط(تقديس مفهوم البطولة والذي يجب ان يكون فيها الرجل الشجاع نهاب وهاب) حيث ان العشائر كانت في صراعات مستمرة فيما بينها من اجل الغلبة والاستحواذ واظهار بطولات رجالاتها. لذلك كانت تتميز في العراق قدسية الانتماء الديني للدولة الاسلامية بالدرجة الاولى وهي شاملة وعامة لكل المسلمين يليها قدسية الانتماء العشائري المحدودة وقدسية الانتماء للمحلات والاحياء في المدن وقدسية الانتماء للمجموعات او للقوى الاقتصادية المتنفذة وهي محدودة ايضا. لذا لم يظهر مفكرين عراقيين مخلصين للوطن العراقي ولقدسية ترابه لينظروا للوطنية العراقية قبل اي شيء. كما نود ان نشير الى وجود عامل اخر قوي كان له الدور الاكبر في تمزق الهوية الوطنية للعراق في عصوره المختلفة وهو العامل الجغرافي من حيث وقوع العراق في منطقة الفصل بين القوى الاقليمية القوية المتنافسة المختلفة. ان مصر وبلاد الشام لم تكن تعاني من تمزق هوية وطنية مثلما كان يعاني العراق لانها كانت بعيدة عن ايران المنافسة لتركيا العثمانية والمختلفة معها مذهبيا. لذا كان الصراع الحقيقي بين تركيا وايران ساحته المستمرة والكبرى هي العراق. فلم يكن العراق يستقر على حال ابدا، وكانت الثقافة المحلية متناقضة ومتذبذبة ولا تمتلك خصوصية ثابتة الملامح ، ولهذا لم تترسخ مفاهيم انتماء عراقية قوية ومتينة لا بل ان كل ما كان موجود يرسخ هوية الانحياز اما الى تركيا او ايران. الا ان العراق بقي في قرونه الاخيرة قبل ان ينسلخ عن الجسد العثماني بقوة الاحتلال البريطاني تحت سيادة تركيا والتي تعاملت بشكل طائفي مع ابناءه مما سبب ترسيخ مفاهيم وافكار الصراع الطائفية. العراق مكون من اغلبية شيعية عربية ومكون عربي سني اضافة الى وجود مكون كردي كبير (طبعا في عهد الحكم العثماني لم يكن هناك تحديد ملامح واضحة لخارطة العراق بشكل دقيق لذا فان وصف المكون الكردي يقصد به في عراق ما بعد الحرب العالمية الاولى) اضافة الى وجود اقليات دينية اخرى متعددة. كان الانتماء الاكبر هو الانتماء الديني للدولة العثمانية لانها كانت تمثل رمزا للخلافة الاسلامية. كانت مشكلة الشيعة هو ان الدولة العثمانية تعاملهم على انهم مواطنين من الدرجة الاخيرة في العراق ولا تقربهم مثقفيهم ولا تقربهم من السلطة نهائيا. لذلك انحسرت التعليم والثقافة للاغلبية الشيعية على العلوم الدينية في الحوزات العلمية فقط. الدولة العثمانية لم تدعم اي فكر عرقي او اقليمي ضمن حدود سلطتها باستثناء الثقافة والفكر التركي. كما ان الدولة العثمانية ولاسباب طائفية كانت لا تثق بالمكون العربي العراقي خصوصا في عصورها الاخيرة ولا تعتبره حليف ممكن الوثوق به لذلك لم يظهر مفكرين عراقيين قادرين على ترسيخ المفاهيم الوطنية العراقية. ان ظهور اي فكر في العراق يجب ان يكون مدعوم اما من اوربا الطامعة بخيرات الشرق واستغلال شعوبه او يكون مدعوما من قبل ايران التي تسعى الى التوسع على حساب حدود الدولة التركية وافضل ما تسعى اليه ايران هو العراق. لذا ظهرت ثقافات عراقية متناقضة غالبا ما تحرك وتمول من خارج العراق وذلك افرز اللاستقرار المستمر في المفاهيم والقيم كثقافة عامة للمجتمع العراقي مما لم يسمح بنشوء ثقافة استقرار وطنية عراقية جامعة وسليمة في تلك الفترة.
قام المحتل البريطاني بحكم العراق بشكل مباشر في تلك الفترة لم يكن هناك معنى حقيقي للوطنية العراقية المستقلة وانما اغلب الحركات التي ظهرت وقاومت كانت تدعو الى اخرج المحتل البريطاني الكافر وتدعو للعودة الى حكم العثمانيين كقدسية انتماء ديني . ان العراق الجديد كان يناهض المحتل رغم ان المحتل جاء بفساد اقل من فساد العثمانيين وكانت هناك روح وطنية اسلامية توحد الجميع ضد البريطانيين وتعمل على اسناد الدولة العثمانية المنهارة ومحاولة انعاشها مرة اخرى. لقد ساهم الكثير من الاكراد والشيعة خصوصا في التلاحم والعمل المتضامن من اجل دحر الغزاة ودعم العثمانيين. الا ان الحياة الافضل التي جاء بها المحتل البريطاني جعل الحركات المؤيدة للدولة العثمانية تضعف وتضمحل تدريجيا . الا ان استبداد المحتل واساليبه الماكرة باذلال العرقيين وتناقض تصريحاته ونكثه العهود جعل العراق ينتفض بثورة عارمة ضد المحتل وكانت هذه الثورة البذرة الاولى لتشكل العراق كوطن وكأمة. فمن مهد لهذه الثورة؟ وما هي عصبية التوحد الفكري التي جعلت العرقيين يتوحدوا بها؟ ان مؤسسات الثقافة التي كانت تابعة للحكم العثماني في عراق ما قبل الحرب كانت مؤسسات نفاق ووصولية وبوجوه طائفية كانت تمجد السلطة وتزين اعمالها فقط. لذا حالما سقط العراق بايدي الانكليز انهارت هذه المؤسسات والكثير من منافقيها بدلوا اثوابهم بثقافة الترحيب بالمحتل. لذا لم تبقى هناك ثقافة في العراق تناهض الاحتلال سوى ثقافة المرجعيات الدينية التي استمرت على نهجها السابق نفسه وهو عدم ثقتها بالسلطة الحاكمة سواء عثمانية او بريطانية (ان المرجعية الدينية تركت كل خلافاتها مع الحكومة العثمانية جانبا ووقفت معها بالحرب ضد المحتل البريطاني الذي كان يدعى بالكافر) ان مؤسسات الثقافة الدينية في النجف الاشرف لم تكن خاضعة للعثمانيين لا بل انها كانت متذمرة من الطائفية العثمانية اتجاه العراقيين. نكث البريطانيين بعهودهم للعراقيين وحليفهم الشريف حسين ملك الحجاز بعد الاحتلال واصروا على عدم منح العراق استقلاله. لذا قامت المرجعية الدينية بالعمل على توجيه العراقيين الى مقاومة المحتل بقوة السلاح مما نتج عن ذلك ظهور وولادة للفكر الوطني العراقي باول انتفاضة شرف وطني شملت اغلب مناطق العراق وهي انتفاضة ثورة العشرين. دعمت المرجعية الدينية قادة ثورة العشرين وأسست الى ثقافة وطنية جامعة لكل العراقيين وافضل ما تم العمل عليه في تلك الفترة هو التوحد الاسلامي الكبير بين الشيعة والسنة العراقيين وظهروا قادة عرقيين عملوا على اجراء التقاربات الشيعية السنية لغرض التوحد بثقافة وطنية تعتمد على عصبية الانتماء للعراق. لذا يمكن اعتبار ثورة العشرين بانها الشرارة الاولى لظهور شمس الوطنية العراقية ورفض المحتل. ان ثورة العشرين جعلت بريطانيا في حالة ارباك شديدة وحيرة كبيرة فهي كانت تخطط لشرق اوسط يبقى تحت سيطرتها وهيمنتها مثل الهند وباكستان الا ان ظهور الوطنية العراقية الرافضة للمحتل البريطاني الكافر جعلها تعمل بمكر وخبث كبير لضرب ثورة العشرين واستخدام (سياسة فرق تسد) وعملت بقوة على تقريب الفئات العراقية التي كانت بيديها السلطة قبل الاحتلال (بقايا الحكم العثماني الطائفي في العراق)والعمل على العودة بالعراق لحلقات مسلسل اذلال جديدة للعراق ولقيادته الوطنية التي ضربت الانكليز ضربات موجعة في ثورة العشرين. وجاءت بريطانيا بملك من خارج العراق وعملت لاحقا على تقليم اظافر من قام بالثورة وفعلا نجحت بريطانيا بخلق عملاء مخلصين لها ولمشروعها ضد مصلحة البلد ومهدت لهم ليسطروا على مقدرات البلد الاقتصادية ويستغلوها لصالحهم وصالح سيطرتهم المطلقة وحرمان وذلال الشعب.
ان استقرار الوضع على ايدي عملاء الاحتلال بعد ضرب ثورة العشرين والعمل على ترسيخ مفهوم القومية العربية بشكل قطري وعنصري جعل العراق يعاني من تمزقات جديدة. ان فكرة القومية المستوردة من اوربا روج لها المستعمر الاوربي لغرض اضعاف الدولة العثمانية وكان الشريف حسين يدعو لذلك بدعم بريطاني كبير لغرض اضعاف الدولة العثمانية في فترة الحرب. الا ان الشريف حسين تم اجهاض مشروعه وحلمه بان يكون ملك العرب كما وعدته بريطانيا. حيث ان بريطانيا عملت على تقسيم الشرق الاوسط ومنح فلسطين لليهود باتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا. ان ظهور تيارات عروبية (رغم ان الكثير من دعاتها هم من اصول تركية وعثمانية)عراقية قوية الى درجة التطرف مزقت الهوية الانتماء الوطنية العراقية حيث بدا الاكراد يبحثون فعلا عن هوية جديدة معادية للهوية العربية التي نشات عليها الدولة العراقية الجديدة. ان الحكومة الملكية كانت ضعيفة واصبحت تلجا الى احضان المحتل وتنفذ كل رغباته لكي تضمن دعم ومساندة المحتل في قمع الشيعة والاكراد ومنعهم من نيل حقوقهم الوطنية. بذلك اصبحت الحكومة في العهد الملكي حكومة اقلية برجوازية لا تهتم للشعب العراقي ولا تعمل على ترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية العادلة للعراقيين. لذا منذ الثلاثينيات شعر الكورد بضرورة مقاومة الحكومة العراقية بحثا لهم عن وجود جديد لم يكونوا يبحثوا عنه لقرون طويلة من تاريخهم تحت ظل الحكومات الاسلامية، لان الحكم الاسلامي يشمل جميع المسلمين ولا يهتم للعرقية الا بحدود ضيقة . لذا نشا العراق بعد تشكيل الحكومة الملكية العراقية بلا هوية جامعة وكانت الحكومات ترسخ مفهوم سلطة الاقلية وتحتقر الشعب والفقراء ولم يظهر مفكرين عراقيين يتناولوا هذا الموضوع بشيء من الموضوعية والجدية وظهر بدلا من ذلك الكتاب المتزلفين والمنافقين والطائفيين الذين يكتبون للسلطة ويزورون ويعملون على تشويه الحقائق لانهم قرب السلطة لا بل ان الكثير منهم يحاول ان يسلب غالبية العراقيين هويتهم العراقية.
ان بريطانيا شجعت بعض دول الشرق الاوسط ليس الى الاتحاد فيما بينها وانما الى تاسيس الجامعة العربية لغرض ان يكون لها انتماء هش وهزيل يتم من خلاله تعميق العجز لهذه الدول. لان هذه الجامعة لا تقوى على شيء ولا تمتلك قرار محترم وانما تعمل فقط على جمع زعماء هذه الدول الحديثة النشوء والتي مع الزمن ستزداد خلافاتها واختلافات الفكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. اصبح هناك انتماء عام للشرق الاوسط هو الانتماء للجامعة العربية التي لا تمثل سوى فكرة خارجية استعيض بها عن التوحد الفعلي الذي لو كان قد حصل لخلق قطب عالمي عظيم كان سيعمل على توحيد الشرق الاوسط ويدعم تشكيل هوية شرق اوسطية لمكونات الدولة الموحدة في هذه البقعة من العالم وكان الشرق سيتجاوز مسألة الصراعات والتناحرات العرقية الداخلية والطائفية اضافة الى امكانية تاثيره العظيمة على بلدن العالم الاسلامي. لذا تم الاستفادة من الجامعة العربية في تهميش دور المكونات المختلفة في الشرق الاوسط وجعل اي قرار يخرج من هذه المؤسسة هزيلا ضعيفا لا يرقى الى مستوى الطموح في اي بلد من بلدان الشرق الاوسط. لذا لم يقوى العرب على مواجهة الدولة اللقيطة اسرئيل في صراعتهم معها عبر اكثر من نصف قرن من الزمان .ان دور دول الجامعة العربية كان سيئا جدا اتجاه العراق لان اغلب الدول كانت تختلف مذهبيا مع العراق واغلب الدول العربية كانت تابعة للدولة العثمانية فيما مضى لذا فان دورهم كان كبير في دعم الحكومة الدكتاتورية المتسلطة في العراق وباسم القومية العربية وشعارتها كان الشعب العراقي يذبح لاسباب عرقية وطائفية لعقود طويلة من الزمن . واصبح كل من يدعو الى الهوية العراقية المستقلة قبل اي انتماء اخر كانما يعادي القومية العربية ويعادي باقي البلدان العربية. لذا اصبحت الغالبية العراقية تعيش الغربة في بلدها ومهددة بسحب الهوية العراقية منها باي وقت. ان اي دولتين متجاورتين جغرافيا عبر التاريخ من المستحيل ان لا يكون هناك تجانس وتمازج بين شعبيهما عبر الجاليات فيما بينهم. فمثلا اليوم ممكن ان نجد الكثيرين من اصول سعودية وسورية ولبنانية وحتى مصرية يعيشون في العراق والعكس صحيح وان هؤلاء اصبح جزء من الشعب العراقي ولا يمكن انكار هويتهم وانتمائهم للوطن العراقي. كما يوجد الكثير والكثير جدا من الاتراك والشركس والجورجين والشيشانين والداغستانين وغيرهم من الذين جاؤا مع العثمانين في العراق ولهم دورا كبيرا في السياسة العراقية في عراق ما بعد الحرب العالمية الاولى وهؤلاء اصبحوا عراقيين ولم يشكك احد بهويتهم الوطنية العراقية لا بل ان الكثير منهم تقلد مناصب مهمة في الدولة والغالبية العظمى منهم استعربوا واصبحوا من دعاة القومية العربية وذلك لان تبني المفهوم القومي العربي سيخدمهم اكثر لاجل استمرارهم في حكم العراق والسيطرة عليه ، وبنفس الوقت العراقيين الشيعة كانوا يعاملون كمواطنين من الدرجة الاخيرة ويعاملون دائما كاغراب عن الوطن العراقي وهذا يمكن اعتباره استمرار لسياسة الدولة العثمانية في العراق حيث يعامل الشيعة وكأنهم عبيد وليس كمواطنين عثمانيين. لا بل ان الكثير من العراقيين تم سحب هويتهم العراقية وطردهم خارج العراق بمسلسل متواصل عبر التاريخ بزعم انهم ايرانيون والحقيقة هي لانهم شيعة وليس ايرانيون. المشكلة ليست مشكلة عرق او قومية او وطنية وانما المشكلة هي سياسية طائفية تحاول تحجيم دور المكون العراقي الشيعي مهما كل الثمن.
نتسأل هنا لو نشأ نزاع وصراع بين العراق الجديد وتركيا هل سيتم تهجير اكثر من مليون عراقي بحجة انهم من اصول تركية او عثمانية ام ان المسالة ستأخذ طابعا اخر؟.
ان المواطن العراقي اصبح يكره السلطة التي تحاول ان تذله ولا تحاول ان ترفع من شانه لا بل ان الحكومات العراقية المتعاقبة منذ تشكيل الدولة العراقية وحتى الان تعامل الاجنبي في العراق معاملة افضل من معاملة العراقي وهذا عكس ما يحصل في غالبية بلدان العالم الاخرى. لذا ترسخ مفهوم الهوية الممزقة واصبح العراقي يشعر بغربة شديدة عن بلده ولا يمكن ان يتمسك بهوية ترفضه ولا تمنحه حقوقه بالمواطنة الصالحة. لا بل ان الاقلية العشائرية العراقية التي حكمت العراق استبدت بالعراق وكانت مدعومة من اغلب الدول العربية واصبحت هذه الاقلية ذات ثقافة سمتها التعالي على كل المكونات العراقية سمة الاسياد وباقي مكونات المجتمع العبيد. لذا بعد سقوط الصنم اصبح من الصعوبة على هذا المكون العراقي ان يرى من كان يعاملهم على انهم عبيد اصبحوا اسياد ومتحكمين ومتنفذين في البلد لذا افضل شيء ممكن يستخدم للنيل منهم هو تجريدهم من هويتهم الوطنية واتهامهم بانهم ايرانيون وصفويون بعبارات وشعارات جوفاء ممقوتة تردد هنا وهناك بوسائل الاعلام المختلفة المدعومة من قبل الانظمة العربية وحصيلة ذلك هو زيادة التمزق في الهوية الوطنية العراقية اكثر واكثر وهذا قد يمهد الى سايكس بيكو جديد لتمزيق العراق الديمقراطي. من المخجل جدا ان يوصف الشيعي العراقي بانه ايراني او صفوي حيث ان هذه التهمة اصبحت تطلق جزافا لوصف ايراي او قرار حكومي او شيعي. ان اتهام الحكومة المنتخبة في عراق ما بعد السقوط بانها ايرانية صفوية يعتبر اكبر جريمة بحق العراق والهوية الوطنية العراقية لان مثل هذه التهمة تعني بان الغالبية العراقية التي هي بحدود 70% من الشعب العراقي ستكون ايرانية وليست عراقية وكانما العراق هو تابع لايران ولا يمتلك هوية وطنية مستقلة. اي بعبارة اخرى لكي يرضى المتطرفين يجب ان تحدد الهوية الوطنية العراقية بعد ان يتم تهجير 70% من الشعب عراقي!! وهذا هو منطق طائفي وعنصري عجيب استغلته كل دول الجوار العربي(لا بل حتى القوميين الايرانيين المتطرفين يسعدهم هذا التجني وهذا الراي القبيح) لغرض تدمير العراق الواحد. يجب ان يتنبه العراقيين الى ان التعصب الاعمى قد يقود الى سايكس بيكو امريكية سيئة للجميع. ان الاعلام له دور كبير في تشويه الحقائق وامريكا التي لديها اعظم مؤسسة اعلام في العالم ترسخ هذا المفهوم عالميا والسعودية ترسخه على مستوى الاقليمي والاسلامي.
لو رجعنا لحقيقة الوضع في العراق وتأثر الدول المجاورة سنجد بان اكثر الدول تضررا من العراق الديمقراطي الجديد هي الدول العربية المجاورة له وخصوصا السعودية. اما ايران فلا يقلقها شيء سوى تواجد القوات الامريكية في العراق والخليج العربي. ان ايران كانت مستقرة في فترة وجود نظام البعث ونظام صدام فيما قبل احتلال العراق لذلك فان الوضع الجديد مهما حصل فيه من تغيرات وتقلبات فانها لا تقلق ايران بقدر ما تقلق الجوار العربي. مهما كان شكل السلطة في العراق ومهما كان لونها العرقي والطائفي فلن تقلق منها ايران لان ايران كانت تجاور اسوء نظام وهو نظام صدام لذا فان اي نظام جديد سياتي بالتأكيد لن يكون اسوء من نظام صدام بالنسبة الى ايران كما ان ايران بغالبية شعبية شيعية تتجاوز 95% وهذا يعني ان ايران لن تخشى من حصول صراع طائفي داخلي فيها مهما كان شكل الحكم في العراق وحتى صدام لم يستطع ان يفعل شيء في ذلك . اما الدول العربية فان صدام وان كان الاسوء بسلوكه الا انهم اغلبهم لم يوافقوا على الاطاحة به وذلك ليس حبا به او حبا للعراق وانما لمنع قيام نظام عراقي ديمقراطي قوي قد يؤدي الى احداث انقلابات سياسية عظمى في المنطقة. يمكن اعتبار السعودية على انها المتضرر الاكبر من سقوط صدام على المدى البعيد لان ثلث الشعب السعودي هم من الشيعة المضطهدين والذين يتنظروا اي فرصة لكي ينالوا حقوقهم في داخل بلدهم كما ان غالبية المكون الشيعي في السعودية هم سكان المناطق الغنية بالنفط. ان الديمقراطية بالعراق ستعطي الشيعة حقوقهم في قيادة العراق وهذا قد يحفز المكون الشيعي في السعودية للانتفاض والمطالبة بحقوقه. لذلك عملت السعودية على ضرب الديمقراطية في العراق وصرف مليارات الدولارات لإجهاض الديمقراطية العراقية وفعلا نجحت السعودية بخلق الكثير من اسباب الفتنة الطائفية في العراق. كان من المتوقع ان تنشا وطنية عراقية تجمع العراقيين بعد سقوط الطاغية الا ان التدخلات الخارجية المدعومة من السعودية واغلب الدول العربية منعت ذلك واصبح العراقيين يعانون من انقسام داخلي كبير وتجذر بشكل اكبر بكثير من الماضي ولربما الدور الاكبر في خلق ذلك يعود الى امريكا التي يبدو انها تعمل على اعادة تشكيل الشرق الاوسط بحدود جديدة وبلدان جديدة.
لازالت المؤامرات متواصلة ولازال الشعب العراقي يعاني من تبعات الماضي اضافة الى نشر وترسيخ افكار الجهل والتخلف والتراجع بشكل اكبر من الماضي في عراق ما بعد سقوط الصنم ، ومنع اي مؤسسات ثقافية من الدخول للمجتمع لترسيخ مفاهيم فكر توحد وطني عراقي جديد. ان اي فكر عراقي حر ومستقل لم يروج له بالأعلام كما ان سلطة الشارع العراقي الجاهلة في اغلب مناطق العراق اصبحت تقف كحائل امام انشاء ديمقراطية سليمة في البلد واصبحت تمثل قوى فوضوية لا تحترم القانون والنظام وتعمل كمافيا ضد اي توجه فكري ممكن ان يثقف المجتمع اتجاه رفض العنف والخضوع للقدسيات المحدودة على حساب العراق وامة العراق لكي لا تخسر هذه القوى سلطتها كما انها كانت السبب الاكبر لنمو الفساد في مؤسسات البلد اضافة الى انها بدأت تتسلق تدريجيا الى اعالي سلم السلطة في الدولة الجديدة. كما ان المؤسسات الثقافية والاعلامية العراقية اصبحت تابعة للحكومة والاحزاب المتصارعة من اجل الوصول الى مكاسب ومغانم الحكم فقط. لذا لم نجد حتى الان توجه فكري يعمل على ترسيخ مفهوم الوطنية العراقية الجامعة. لا بل ان اي عراقي اصبح ينظر الى وطنيته من خلال الصراع وليس التقارب والتفاهم والتوزيع العادل للثروة والمكاسب.
ان الشعب الليبي رفع العلم الامريكي من اجل اسقاط طاغيته المقبور القذافي والشعب الليبي بغالبيته العظمى ينظرون الى القذافي بانه مجرم وطاغية اذل الشعب الليبي ونرى بان هناك حصول اجماع واتفاق وطني ليبي على ذلك. اما في العراق فان بعض المكونات العراقية لازالت تنظر الى صدام على انه رمز من رموزهم رغم انه كان طاغية اسوء من القذافي. وهذه النظرة تستحق ان نقف عندها كعراقيين جميعا. يجب ان نتخذ قرار بان الدكتاتورية مرفوضة وبان صدام ليس بأفضل من القذافي مثلما فرحنا للشعب الليبي يجب ان نفرح لشعبنا ويجب ان نعمل على ايجاد نقاط اتفاق نبدأ منها لنتوحد. كما ان حزب البعث انتهى ويجب ان لا يدافع عنه احد ويجب منعه من العودة للعمل السياسي لانه دمر العراق مثلما الحزب الحاكم في مصر دمر مصر والحزب الحاكم في تونس دمر تونس وان الاحزاب الحاكمة في زمن الدكتاتورية يجب منعها من الظهور مرة اخرى. ان مصر وتونس ليس لديهم مشكلة في هذه النقطة اما في العراق فلدينا مشكلة وهي الطائفية يجب ان نتخلص منها ونتفق على الحقوق والواجبات ونتفق على تقسيم عادل للثروة في البلد وهذا هو اساس البناء الصحيح. ويجب ان نعمل على ان نبني عراق قوي عراق له علاقات تكافؤ طيبة مع جيرانه. استقرار العراق لا يمكن ان نحصل عليه الا بان نتفق داخليا ونتوحد بقدسية وطنية جامعة ويجب ان لا نهتف بشعارات عداء للجوار العربي والاقليمي. ان حل مسالة التحديات الخارجية مع الجوار ليست بالامر العصي او المستحيل. ان الحدود بين العراق وجيرانه مثبتة لا مشكلة فيها وان كانت هناك مشكلة من الممكن ان تحل بالحوار المتكافئ . اما مسالة المياه فهذه تحتاج الى مؤتمر اقليمي لتوقيع اتفاقية حفظ الحقوق بين كل دول المنطقة. كما ان حلول هذه المشاكل سيكون سهل لو حصل اجماع وطني واتفاق وطني داخلي. اذن يجب ان نتفق على قدسيتنا الوطنية ونتعصب لها جميعا ويجب ان لا نتمسك برموز البؤس الماضية. العراق سيقف على قدميه نتمنى من الجميع ان ينظروا نظرة واقعية لما نحن فيه سنجد باننا في اختلافنا خاسرون وجميع الجوار الاقليمي العربي والاسلامي رابحون من مأساة العراق. ان العراق امه وشمس اكد واشور وبابل سترتفع وستحرق الظلام الذي يخبيء الظلم وستحرق اوثان الغباء والطائفية. قلنا ما نعتقد ونؤمن بالتصحيح ان ثبت خطا ما اعتقدنا. ونؤمن بالاصلاح وانتماءنا للعراق الواحد يقينا من صراعات التشرذم والانهيار. ونحترم كل من يقدس انتماءته العرقية والطائفية ولا يسيء الى الاخرين.