
الكاتب : سليم الحسني
عندما وضع السيد الشهيد محمد باقر الصدر أسس حزب الدعوة الإسلامية ونظريته السياسية، فانه انطلق من إيمان كبير بقضيتين:
الأولى: قدرة الحزب الجديد على تحقيق كل الأهداف المرحلية التي تتضمنها نظريته.
الثانية: ان الأمة ستتفاعل مع الحزب في عمله ونشاطه وحركته التغييرية ومن ثم تكون سنده ومادته وقاعدته في تحقيق أهدافه.
لم يخضع الفكر السياسي للسيد الشهيد ولا مواقفه للمراجعة، فقد غطّت عبقريته الفذة في مجال الفكر على كل أقواله ومواقفه ورؤاه، كما أن استشهاده المأساوي والبطولي أغلق الأبواب أمام المراجعة والتقييم، بقفل ثقيل من العاطفة والتقديس.
ومع أن السيد الشهيد يستحق لعبقريته النادرة ولتضحيته الكبرى أعلى درجات التقديس والعاطفة، إلا أن إعطاء التجربة حقها، يفرض من الناحية الموضوعية المراجعة والتأمل.
لقد كان السيد الصدر منظراً عظيماً، لكنه لم يكن كذلك على مستوى العمل الميداني وقيادة الأمة. فقدر كبير من الحسابات النظرية المشتركة بينه وبين قيادة حزب الدعوة جعلت المواقف العملية تسير خارج قدرة الأمة على الاستجابة والتفاعل معه أو مع الحزب. وقد ساهم السيد الشهيد في وضع الأسس الاستراتيجية للحزب، كما أنه وضع خطوطه الفكرية والتي تحولت فيما بعد الى منهج ثابت طبع عمل الحزب وتوجهاته وأفكاره ومواقفه.
قام البناء الحزبي على أساس ضخ الثقة العالية في نفوس أعضائه، وقد كانت عملية الضخ هذه مبالغاً فيها. والذي جعلها تأخذ هذا المنحى أن قيادته كانت تملك تصورات واسعة حول قدرة الأعضاء، فاعتبرت أن الداعية هو قائد في الأمة، وتكرس هذا التصور في نفوس الأفراد بحيث صار الداعية حين يقرأ النشرات الداخلية يشعر بثقل المسؤولية وصعوبتها من جانب، وبقدرته الخارقة من جانب آخر. كان أحد الطرفين واقعياً، لكن الطرف الثاني كان خيالياً. وقد نجم عن ذلك صناعة شخصية حزبية غير واقعية.. شخصية صادقة ومخلصة ومؤمنة بأهدافها، إلا أنها تنظر للحدث والميدان بما يشبه الاستخفاف، ليس من موقع الغرور أو التعالي، إنما من موقع الإحساس المفرط بالقوة.
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران أوائل عام ١٩٧٩، كنتُ مع أحد الدعاة نتبادل الحديث على كورنيش الكاظمية، وكان أكبر مني عمراً ومكانةً في الحزب، فراح يحدّثني عن قدرة الحزب وامكانياته. كانت لهجته نابضة بالقوة، تنضح ثقة ويقيناً، قال لي:
ـ إن الدعوة تستطيع حالياً أن تسيطر على البصرة بحيث تصبح محافظة خارجة عن سيطرة النظام. لكننا لا نريد أن نقوم بذلك، فالأفضل أن يتركز العمل على إسقاط النظام كله.
لم أناقشه على كلامه هذا. لقد اقتنعتُ وقتها بقدرة الحزب على ذلك. ووضعتُ اللائمة على نفسي بأني لستُ مطلعاً على قدرة الدعوة وإمكاناتها الخارقة في تلك الفترة. لقد شعرت بفيضان من مشاعر القوة يغرقني، وحلّقت بدون شعور في فضاء بعيد من الآمال والأحلام بقرب الانتصار على نظام البعث ونهاية هذا الحكم الظالم.
بعد عدة أشهر كان هذا الأخ رحمه الله يواجه التعذيب الشديد بصبر وصمود في مديرية الأمن العامة. وكانت بغداد تضيق بنا نتيجة الاعتقالات المتلاحقة. العراق كله صار ضيقاً صغيراً، ثم كانت الهجرة الطويلة لآلاف الدعاة بعد أن أصبح قضاء يوم داخل الحدود يعني الموت.
٣ كانون الأول ٢٠٢٢