نوفمبر 22, 2024
WpvbL

اسم الكاتب : أ.د. محمد الدعمي

 كان الاهتمام بأرض الرافدين قد تواصل دون انقطاع عبر هذه الحقب المهمة من تاريخ العقل الغربي، حتى وقوع العراق تحت نفوذ الإمبراطورية البريطانية، إذ تكرس هذا الاهتمام الفكري المتخصص به، ليس فقط بسبب موقعه على الطريق الرئيسة بين الجزر البريطانية وبين أهم مستعمراتها (الهند)، بل كذلك بسبب غنى أرض البلاد وإرثها التاريخي المهم، زيادة على مسببات اقتصادية مستجدة، كاكتشاف النفط المبكر شمال العراق. وقد أذن الاحتلال البريطاني للعراق، ثم وقوعه في دائرة الانتداب البريطاني، باندفاع أعداد هائلة من البريطانيين وسواهم من الأوروبيين لدراسة العراق، من إنسانه وتاريخه، وأفضل الخرائط الموجودة للعراق (حتى اليوم) هي من إنتاج الرواد البريطانيين الذين جاءوا بعد بداية القرن العشرين، أي بعدما خسر العثمانيون الحرب العالمية الأولى أمام الحلفاء.
وهكذا شهد العراق ظهور شخصيات بريطانية كرست حياتها وسني شبابها لدراسة حقل من حقول الحياة العراقية، فبرزت “الآنسة بيل” Miss Gertrude Bell كأفضل متخصصة في السياسة العراقية على أيام تأسيس الدولة العراقية (لاحظ صداقتها الحميمة مع الملك فيصل الأول، مؤسس المملكة العراقية)، بينما تفوقت فريا ستارك Freya Stark كأفضل كاتبة وفنانة في الشؤون السياسية والحياة الاجتماعية العراقية، بعد أن أصدرت العديد من المصنفات النفيسة حول ذلك البلد، منها كتب لرسوماتها التي تعد من أفضل الأعمال الفنية التي توثق حياة العراق والعراقيين اليومية عبر بدايات القرن العشرين. أما في حقل الدراسات الدينية ودراسات الأديان القديمة، فقد أبدعت باحثة بريطانية، اسمها الليدي دراور Lady Drower، في تعمقها ورصدها لأديان الأقليات المجهرية القديمة، مؤلفةً عددا من الكتب المرجعية حول طائفة “الصابئة المندائيين” وحول “اليزيدية”، وهو دين رافديني ينتشر فقط شمال العراق.
وقد كان الضباط الإداريون والعسكريون البريطانيون الذين عملوا في العراق إبان الاحتلال وعهد الانتداب من أبرز الذين درسوا الحياة الاجتماعية والتنظيمات العشائرية للأقاليم التي كانوا يديرونها، إلا أن كتاباتهم المهمة لم تنشر لأسباب عسكرية وأمنية، حيث ذهبت عبر هذه القنوات “الخاصة” إلى الدوائر الإمبراطورية المسؤولة في لندن ثم إلى المتحف البريطاني. ومن أبرز هؤلاء، كان الحاكم العسكري لإقليم العمارة (محافظة ميسان) الضابط هيدكوك S. E. Hedgcock، الذي ألَّف، بالتعاون مع زوجته، أفضل دراسة أنثروبوبوجية حول سكان الأهوار جنوب العراق، كتابا تحت عنوان (حجي ريكان: عربي من الهور)، Haji Rikkan: Marsh Arab، مفضلا إصدار هذا الكتاب المرجعي المهم باسم قلمي مستعار، “فلانين” Fulanain، بمعنى فلان وفلان، أي هو وزوجته، نظرا لمنع السلطات البريطانية نشر مثل هذه الكتب من قبل مسؤولين رسميين أثناء الخدمة في الدولة.
ربما يكون هذا الاهتمام البريطاني بالأهوار وبسكانها قد بلور فكرة “الاستعراق” لدي، حيث ظهر عدد كبير من المرتحلين الذين كرسوا حياتهم وأنشطتهم لاستكشاف عالم الأهوار. وقد شملت قائمة “المستعرقين” المختصين بالأهوار جنوب العراق أسماء لامعة في تاريخ الوجود البريطاني في الشرق الأوسط، أسماء من وزن “ولفرد ثسجر” Thesiger، مؤلف كتاب (رمال بلاد العرب) وجون فيلبي Philby الذي بقي سنين عدة في البصرة، أي على حافات الأهوار، شاربا من مياه شط العرب دون تعقيمها، بينما يتناول تمور البصرة دون غسلها، كما كان يشتكي زملاؤه البريطانيون من عدم اهتمامه بمثل هذه من شروط الصحة! وقد كان آخر العمالقة المتخصصين بإقليم الأهوار، هو “جيفن يانغ” Gavin Young الذي أتحف مكتبة الاستعراق والاستعراب بكتابين مصورين مهمين، هما: (عرب الأهوار) The Marsh Arabs، و(عودة إلى الأهوار) Return to the Marshes، وهي مؤلفات أنثروبولوجية واجتماعية وصفية حاولت بذكاء رصد كل ما يتعلق بعالم الأهوار المختبئ خلف أعمدة البردي والقصب الشاهقة. وقد توفي هذا المستعرق الكبير قبل بضعة عقود في بريطانيا بعد أن اقتنص نوعا نادرا من أنواع “ثعالب الماء” Otter التي تعيش في أهوار العراق، فقط، ليكون هذا الثعلب “بطلا” تذكاريا في فيلم سينمائي معروف، صور في إنجلترا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *