اسم الكاتب : أحمد رجب شلتوت
يمثل المفكر العراقي الدكتور علي المؤمن نموذجاً مثالياً للباحث والمفكر المسلم المشغول بقضايا أمته، والذي يسخِّر معارفه وجهوده البحثية لمعالجة تلك القضايا؛ فأصبحت دراسة هذه القضايا نفسها هي مشروعه الفكري الذي أوقف كل جهوده عليه، وقد أثمرت جهوده أكثر من خمسة وعشرين مؤلفاً، تكشف ـــ ابتداءً من عناوينها ـــ عن اشتغالاته الفكرية.
والدكتور علي المؤمن رغم انتمائه الشيعي وانشغاله بهاجس الهوية الشيعية، خصوصاً العراقية، ومحاولاته لرصد ملامحها وحدودها وتفاعلاتها مع الهويات الأخرى؛ إلّا أنه ينطلق في ذلك من هم إسلامي عام، فمثلاً في كتابه «من المذهبية إلى الطائفية: المسألة الطائفية في الواقع الإسلامي» يدرس المسألة الطائفية، كواقع موضوعي تراكمي في حياة المسلمين، تدخّلت عدة عوامل في صنعه وإنتاجه، ابتداءً من نشوئه كنتيجة للخلاف على موقع قيادة الأمة، ويتابع تبلوره مذهبياً فيما بعد، وصولاً إلى تحوله إلى صراع طائفي سياسي. وهنا يقف الدكتور المؤمن من خلال دراسته للطائفية، على عمق المخاطر الناتجة عن هذا الواقع، وهي المخاطر التي تحدق بالجميع، وهو بذلك يستهدف الوصول إلى قناعة مشتركة بين حكماء الأمة من السنة والشيعة، تعمل على تجسير الفجوة بين طائفتيهما؛ لذلك يضع وبحسب عنوان كتاب آخر له «الغزو الطائفي في مواجهة المشروع الحضاري الإسلامي»؛ فقناعته الثابتة أن الطائفية خطر داهم يهدد مستقبل الأمة ويعوق نمو مشروعها الحضاري.
هكذا ينطلق الدكتور علي المؤمن من قضايا الطائفة التي ينتمي إليها (الشيعة) إلى قضايا الأمة الإسلامية بأسرها؛ فهو في بحثه عن خصوصيات الطائفة، يؤكد على القواسم المشتركة بين كافة طوائف الأمة، كذلك فهو حينما ينشغل بالماضي، كما في كتبه عن «ثقافة عاشوراء»، و«مسيرة الحركة الإسلامية في العراق»، و«القرن العشرون: مائة عام من العنف»، لا نجده ماضويا في تفكيره وفي توجهاته، بل نجده من خلال دراساته للتاريخ، يسهم في تمهيد سبيل فكري نحو المستقبل، كما نجد في كتبه «أسلمة المستقبل: نحو الإمساك بالمستقبل الإسلامي»، و«المستقبلية الإسلامية: منهجية علمية لبناء غد أفضل»، و «من المعاصرة إلى المستقبلية: الفكر الإسلامي واستدعاءات المستقبل».
هكذا تكشف عناوين كتب الدكتور علي المؤمن عن جوهر مشروعه الفكري الذي ينطلق من الخاص (الشيعي) ليلامس قضايا العالم (الإسلامي)، وقد استطاع أن يرصد التشيع كظاهرة اجتماعية أو مكون اجتماعي له خصوصيته وتطلعاته، وأيضا مشاكله وإخفاقاته، وقد وُفق في الوقوف على ما تمتاز به الكتلة البشرية الشيعية، بعيداً عن الجانب العقدي أو الديني، أي أنه يهتم بالمكون الشيعي بكله الديني واللاديني؛ فمهمته رصد الخصائص الاجتماعية التي تميزه عن سواه. وهذا ما نجده في كتابه المميز «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»؛ فهو حينما تطرق إلى الأصول التي يرتكز عليها المجتمع الشيعي، لم يقف عند حدود أصوله العقدية وقواعده الفقهية؛ وإنما تجاوزها ليلامس نوعیة المجتمع الإنساني ومساراته التاريخية، كاشفاً عن هوية ومكونات ذلك المجتمع، وقواعده النظرية، وتراكماته التاريخية التي يستند إليها النظام الاجتماعي الديني الشيعي.
· المنهج والمسار:
يمكن تعريف «علم الاجتماع الديني» على أنه العلم الذي يهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية في ميدان الدين والعلاقات الاجتماعية للدين في الداخل والخارج؛ فهو يتناول دراسة الكيانات والعمليات الاجتماعية التي تنتمي لميدان الظواهر الدينية، ويهدف إلى تحليل أبنيتها والقوانين التي تخضع لها. ويرى كل من “سابينو اكوافيفا” و”بيس انزو” في كتابهما المشترك «علم الاجتماع الديني: الإشكالات والسياقات»، أن علم الاجتماع اهتم منذ ظهوره بالدين: معناه، ووظائفه في المجتمع، ويؤكدان أن مهمته ليست اختراع ظواهر الاجتماع الديني أو اختلاقها، ولا الاستدلال على صحتها وخطئها؛ لأنه ليس علماً تجريبياً ومعيارياً، ولا علاقة له بالسجال الديني والمذهبي؛ بل هو أداة لدراسة ظاهرة قائمة. وبالتالي؛ يتعامل الباحث مع علم الاجتماع الديني باعتباره أداة معرفية لاكتشاف معالم الظاهرة الاجتماعية الدينية، وتوصيفها وتحليلها، وترسيم هيكليتها وأنساقها المعرفية والعملية، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ومقارنتها بالظواهر الأُخر المشابهة أو المتعارضة.
هذا ويمثل علم الاجتماع الديني التقليدي الفهم السوسيولوجي العلماني للدين، في مواجهة الفهم الكنسي للدين، الذي يدرس الدين من داخله، أي من خلال العقيدة والفقه وعلوم النص المقدس، بينما علم الاجتماع الديني، يدرس الدين من خارجه، وبعيداً عن حضور المقدس والتقاليد الدينية النصوصية.
وهو ما يسميه الدكتور علي المؤمن بالنظام الاجتماعي الديني، وبالطبع فإن كتابه يتناول “النظام الاجتماعي الديني الشيعي”، باعتباره ظاهرة مركبة، دينية اجتماعية تاريخية إنسانية، تستند إلى قواعد تأسيسية نظرية، عقدية وفقهية وتاريخية، وتقف على بنى اجتماعية دينية، واجتماعية سياسية، واجتماعية ثقافية، واجتماعية معرفية. وتمثل هذه القواعد النظرية الدينية والبنى الاجتماعية الناشئة عنها، تمثل المداخل العلمية الأساس الكاشفة عن معالم النظام الديني الاجتماعي الشيعي. ومن أجل دراسة هذه الظاهرة الاجتماعية المركبة، لا بدّ من وجود أدوات منهجية معرفية تحتوي على أنساق وقوالب ومعادلات، تعمل على توصيف الظاهرة وتحليلها واكتشاف معالمها. ولذلك؛ أسس الدكتور المؤمن لحقل معرفي منهجي جديد أسماه *«علم الاجتماع الديني الشيعي»*، ونظّر لمنهجيته وقواعده ومعالمه، بمنهجية علمية مقاربة لمنهجية علم الاجتماع الديني العام.
ونظرية الدكتور المؤمن لا تعنى بدراسة التشيع كمذهب ديني عقدي فقهي، وبالتالي؛ فإنه لا يتناول السجال الديني المذهبي في أبعاده العقدية والفقهية أو السجال التاريخي العلمي؛ بل يعمل على مقاربة تأثيرات هذه السجالات إنسانياً واجتماعياً وتنظيمياً وثقافياً وسياسياً؛ فهو معني بالمجتمع الإنساني الذي أفرزه التشيع في مرحلة غيبة الإمام المهدي، وليس في مرحلة حضور المعصوم، أي ليس بالتشيع فقهاً وعقيدة. كما أنه لا يقصد بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي مفهوم المرجعية الدينية الشيعية؛ بل يقصد به ((النظام الجامع الذي تقف المرجعية الدينية على رأسه))؛ فالمرجعية تقود النظام ولا تتلخص فيه، في حين تشكل باقي المكونات أجهزة هذا النظام وقواعده البشرية.
ويرى الدكتور علي المؤمن أن مصطلح «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» مصطلح جامع يستوعب كل جوانب الكيانية الشيعية في بعديها النظري والعملي، يقارب حقيقة هذه الكيانية الاجتماعية الدينية الثقافية السياسية التي تعبر عن واقع الشيعة الإمامية الاثني عشرية ومسارهم التاريخي والجغرافي، بوصفهم أكبر جماعة بشرية منظمة في العالم، وتنتمي إلى مدرسة إسلامية تتميز عن غيرها من المدارس الإسلامية المنتسبة إلى فقهاء مدرسة الخلفاء والصحابة في فهمها للدين الإسلامي وعقيدته وفروعه، وهو فهم يستند إلى أئمة آل البيت حصراً، وكذلك في قراءتها للتاريخ الإسلامي، وفي نفيها لشرعية الأنظمة السياسية التي لا تستمد شرعيتها من أصل الإمامة المنصوص عليها.
أما عن دوافع الدكتور علي المؤمن لتأسيس علم الاجتماع الديني الشيعي؛ فهي تتمثل في احتياج «النظام الاجتماعي الديني الشيعي» لدراسة علمية معمقة؛ بوصفه أهم ظاهرة اجتماعية دينية سياسية في العالم على الإطلاق، خاصة مع عدم قدرة مناهج علم الاجتماع الديني الوضعي على دراسة الظاهرة الدينية الاجتماعية الشيعية دراسة موضوعية تكشف عن حقائق الظاهرة وبناها المركبة.
· ستة عصور للشيعة:
يعتمد الباحث الدكتور علي المؤمن منهجاً تاريخياً وصفياً تحليلياً في تقسيم تاريخ النظام الاجتماعي الشيعي؛ فهو يقسمه إلى ستة عصور أساسية متتابعة، لكل منها مؤسس وقائد تاريخي، ويعقبه أفول تدريجي، وعلى الرغم من ارتباط هذه العصور بشخصيات ذات قداسة دينية، إلّا أن الدكتور المؤمن يؤكد على عنايته بالأدوار الواقعية للشخصيات، وما قاموا به، وليس شخصياتهم وقداستهم، فقد كان معنياً ((بالبعد الواقعي الحسي وليس البعد المعنوي الروحي))، أي أن هذه العصور ليست سياسية أو فقهية، بل هي عصور شاملة لصعود النظام الاجتماعي الشيعي، واستحكام دعائمه وقواه الميدانية.
ويؤرخ الكاتب لنشوء النظام الاجتماعي الديني الشيعي بالعام 632 ميلادية، وهو العام الهجري الحادي عشر، في عصر إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد نشأت قواعده على مبدأ «الإمامة»، والحدث المفصلي الذي أدى إلى ولادة هذا العصر يتمثل في إبعاد الإمام عن إمامة الأمة.
وقد استمر هذا العصر لمدة 112 عاما، وفي عام 132 ه، بدأ العصر الثاني على يد الإمام جعفر بن محمد الصادق، وذلك إثر سقوط الكوفة في يد العباسيين وانهيار الدولة الأموية، وشهد هذا العصر تبلور المدرسة الفقهية الشيعية، وقد استمر هذا العصر 128 عاما تقريبا، وشهد هذا العصر إمامة موسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري ومحمد المهدي المنتظر. وقد بدأت بوادر أفوله حينما شددت الدولة العباسية قبضتها على الشيعة؛ فتراجع نظامها الاجتماعي تدريجياً، حتى انتهى العصر الثاني بغيبة الإمام المهدي وظهور زعامة نائبه الخاص الأول الشيخ عثمان بن سعيد العمري في بغداد في العام 260هـ (874م)، حيث بدأ العصر الثالث.
وإذا كان الإمام علي بن أبي طالب هو مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الإمامة؛ فإنّ الشيخ العمري هو مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، خاصة أن هذا العصر شهد بداية الغيبة الكبرى، وتأسيس الحوزة العلمية في قم، وهو يمثل أحد العصور الذهبية للشيعة؛ إذ تخلله سيطرة الحكومات الشيعية على أغلب العالم الإسلامي، لكن هذا العصر الذهبي انهار برمته على يد صلاح الدين الأيوبي.
أما العصر الرابع فقد بدأ مع هجرة الشيخ الطوسي من بغداد إلى النجف الأشرف وتأسيس حوزته العلمية في العام 448هـ (1056م)، وتميز باستحكام الدعائم الفكرية والعملية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهيكليته وامتداداته في الجوار الإقليمي؛ إذ أسس الشيخ الطوسي للمركزية في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، كما كان في عصر الأئمة الاثني عشر؛ فالنجف لم تكن مجرد حوزة علمية أو حاضرة دينية، بل تحولت ولأول مرة إلى عاصمة مركزية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، كونها مدينة شيعية خالصة، وهو ما لم يكن متحققاً في بغداد. وقد استمر هذا العصر ما يقرب من (459) سنة، أي حتى ظهور الدولة الصفوية في العام 907هـ (1501م) على يد الشاه إسماعيل الصفوي، وحينها بدأ العصر الشيعي الخامس مع تأسيس أول دولة شيعية إقليمية، منذ انهيار الدولة الفاطمية قبل ذلك التاريخ بثلاثة قرون ونصف، وكان البناء المذهبي للدولة الصفوية يقوم على جهود الفقهاء العرب، ولذلك؛ فإنّ المنظومة العقدية والفقهية التي حكمت الدولة الصفوية؛ أنتجها علماء دين عرب، وليسوا فرساً. وقد استمر الصعود الشيعي السياسي والثقافي والاجتماعي لمدة (262) سنة، أي حتى انهيار الدولة الصفوية في العام 1763م.
أما العصر السادس فقد تأخر حتى نجاح الثورة الإيرانية، وتأسيس الدولة الإسلامية الشيعية في إيران في العام 1979م؛ ليصبح الإمام الخميني ثاني مرجع ديني في التاريخ يؤسس لعصر شيعي بعد الشيخ الطوسي. وتختلف الدولة التي أسسها الإمام الخميني في أنها هي أول دولة شيعية عقدية في عصر الغيبة، تستند إلى مبدأ ولاية الفقيه، وأول حكومة إسلامية عقدية إمامية بعد حكومة الإمام الحسن بن علي. وقد انتشرت آثار هذا العصر الذهبي ليشمل جميع دول الحضور الشيعي، فضلاً عن بلدان الإسلامية والعالمية الأُخر.
· المرجعية الشيعية وإعادة المأسسة:
تمثل المرجعية الدينية الشيعية امتداداً موضوعياً للإمامة في عصر غيبة المعصوم، وعلى أساسها تكون للمرجع الديني بصفته النوعية، ولاية حصرية على جملة من شئون المجتمع الشيعي، كالولاية على إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، ويتوسع بعض الفقهاء في إعطاء مساحة أوسع للفقيه؛ لتشمل الولاية على الحكم والدولة. ومردّ الخلاف بين الفقهاء بشأن ولاية الفقيه هي مساحة الحكم فقط، وبالتالي؛ فإنّ المرجعية الدينية مصطلح مرادف لولاية الفقيه مصطلحان؛ فكل مرجع هو ولي فقيه أيضاً، بناء على إجماع الفقهاء، ولكن هناك ولي فقيه ذو مساحة مقيدة تقتصر على الفتوى والأموال والقضاء والحسبة، ولا تشمل الحكم، وهناك ولي فقيه ذو مساحة عامة تشمل ولاية الحكم أيضاً.
وقد استمرت المرجعية الدينية الشيعية على رأس النظام الاجتماعي الديني الشيعي، منذ غيبة الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر، وهي التي أوجدت هيكلية هذا النظام بالتدريج وبلورته، وحفظت من خلاله الشيعة من الضربات المتوالية والانهيار. وتشكل الحوزة العلمية الشيعية مركز هذا النظام، ولذلك؛ يقف المرجع الأعلى على رأس الحوزة العلمية والنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ويقودهما على كل الصعد. ومصطلح «المرجع الأعلى» فهو مصطلح عرفي وليس رتبة علمية، وقد أوجده بعض علماء الحوزة العلمية خلال القرن العشرين الميلادي لفرز المرجع الأعلم المتصدّي للشأن العام عن غيره من مراجع الصف الأول.
ويميل الدكتور المؤمن إلى اعتبار بنية قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومؤسسته الدينية، من الأمور التي يجب إعادة النظر فيها بين عصر وآخر، نظراً لما يستجد من أمور؛ فمن الطبيعي، خصوصاً مع اتساع مساحات النظام، وصلاحيات قيادته المرجعية، وحرية حركة مؤسسته الدينية، أن تنطلق وتتواصل دعوات التجديد؛ فإذا كانت مفاهيم «المرجعية الدينية» و«نيابة الإمام المعصوم» و«ولاية الفقيه» في المذهب الشيعي، من ثوابت عصر الغيبة؛ فإنّ هياكلها وأنساقها تظل دائماً من المتغيرات، والتي تفرض متطلبات الواقع والمستقبل ضرورة إعادة النظر فيها، وتعديلها وتطويرها. ويرى الدكتور علي المؤمن أيضاً أن إضافة مصطلحات جديدة لتوضيح مدلول المرجعية المعاصرة، ومحاولة إعادة تنظيم بنائها، ومنها «المرجعية الرشيدة» و«المرجعية الموضوعية» و«المرجعية القائدة» و«المرجعية المؤسسة»، يعتبر نوعاً من التجديد المطلوب، ودليلاً على أنّ منظومة المرجعية والمؤسسة الدينية، فيها كثير من المرونة والقابلية على المراجعة والتجديد والتحديث في آليات عملها.
ويرى الكاتب إنّ وحدة النظام وعالميته واستحالة تجزئته، من أهم القواعد الوجودية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي الذي تقف المرجعية على رأسه، فإذا ما انهارت هذه القاعدة؛ فإنّ النظام الشيعي سينهار برمته؛ لأنّ عالمية الإسلام ومذهب آل البيت تؤسسان لعالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي تلقائياً. وبنظرة سريعة إلى المسار التاريخي لتأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة الصغرى، سنجد أنّ الثمانية المؤسسين لهذا النظام، كان خمسة منهم عراقيين وثلاثة إيرانيين، وأنّ حاضرة النجف العلمية أسسها فارسي إيراني خراساني، هو الشيخ أبو جعفر الطوسي، وأن مرجعية قم أسسها عربي عراقي، هو الشيخ محمد بن عيسى الأشعري.
· عناصر قوة النظام الاجتماعي الديني الشيعي
ولم يكن للنظام الاجتماعي الديني الشيعي أن يستمر لولا امتلاكه للعديد من عناصر القوة الواقعية، فضلاً عن الروحية، التي دعمت ثباته واستمراره، ويرى الدكتور المؤمن أن هذه العناصر قديمةٌ قِدم النظام نفسه، إلّا أنّ تطورها ونمو تفرعاتها وتبلور مضامينها الفكرية والشعائرية والطقسية؛ احتاج إلى قرون كثيرة، لتخرج بالصيغ التي عليها الآن. ويحصرها المؤلف في اثني عشر عنصراً أساسياً، هي: القضية المهدوية، المرجعية الدينية، ولاية الفقيه، التماسك المجتمعي الديني، عالمية النظام الشيعي، الاستقلال المالي الديني، المراقد والمزارات، شعائر الإمام الحسين، إيران، المشاركة في الحكومات، الجماعات السياسية وجماعات المقاومة.
وقد انتبه مؤسسو النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وغيرهم من الفقهاء والزعماء الدينيين والسياسيين والعسكريين الشيعة، عبر مئات السنين، إلى أهمية عناصر القوة الشيعية الواقعية؛ فعملوا على تطويرها وتنميتها، وفي الوقت نفسه، كان خصوم الشيعة يخططون ويعملون من أجل تدميرها، بهدف إفراغ المذهب الشيعي ونظامه الاجتماعي من هذه العناصر. ويرى الكتاب أن تقويم عناصر القوة هذه، وإصلاحها ودعمها، يجب أن يزداد كلما ازداد تأثيرها وحضورها في الواقع الشيعي.
· هوية الشيعي:
أنزل الله الإسلام كآخر الرسالات السماوية إلى البشر جميعهم، وقد ورد في صحيح مسلم، الحديث النبوي الشريف:((كانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأَسْوَدَ))، وهو ما يفيد أنّ شريعة الإسلام نزلت لعموم الناس، وهو ما عبّر عنه الدكتور علي المؤمن بقوله: ((إنّ الإسلام في عقيدته وشريعته وأحكامه، دينٌ إلهي عابرٌ للحدود والقوميات))، لكن ذلك يتحقق فقط على المستوى العقائدي، فالخالق سبحانه وتعالى خلق البشر شعوباً وقبائل ليتعارفوا؛ فهل ثمة تعارض بين انتماء المسلم لدينه العالمي، وبين الوطن الذي يحمل جنسيته؟. هذا السؤال يعبر عن إشكالية تتعلق بالتوازن بين الانتماء القومي للمسلم وانتمائه الوطني وانتمائه لمنظومته الدينية الاجتماعية، وهي إشكالية واقعيةً وذات قدر كبير من الأهميةً والحساسيةً، وتزداد حساسيتها خصوصاً مع المسلم الشيعي؛ فالنظام الاجتماعي الديني الشيعي يتميز عن غيره من المنظومات الدينية الأُخرى بكونه نظاماً عالمياً لا تحدّه الانتماءات الجغرافية والوطنية والقومية، وهو ما تعبِّر عنه القيادة العالمية للمرجع الديني الأعلى أو الولي الفقيه لها، وكذا الهيكلية العالمية للحوزة وتقاليدها، وهذا النظام الاجتماعي الديني متجذّر في الواقع الشيعي، ويرى فيه الدكتور على المؤمن ((أنّه سر حفاظ المذهب الشيعي والمجتمع الشيعي على بقائهما واستمرارهما، في ظل مساعي الإقصاء والاجتثاث التي ظل الشيعة يتعرضون إليها منذ نهاية دولة الإمام علي وحتى الآن)).
ويرى المؤلف أيضاً أن واقعية عالمية النظام الاجتماعي الديني الشيعي تتجذّر بقوة؛ كلما ازدادت ضغوطات السلطات الطائفية على الشيعة وقمعها لهم، لأنّ الشيعي سيزيد من احتمائه بنظامه الاجتماعي الديني العالمي؛ كلما تصاعدت ضده عمليات القمع والإقصاء، وهو رد فعل واقعي طبيعي، يضاف إلى أصل عالمية المنظومة الدينية الشيعية. ولكن؛ حين يعيش الشيعي في ظل دولة العدالة والمواطنة والإنسان والحريات والتعددية الدينية والمذهبية والفكرية، والبعيدة عن القمع المذهبي والتمييز والتهميش والعزل الطائفي والقومي؛ فإنّ انتماء الشيعي الحقيقي سيكون لوطنه، في حين سيبقى انتماؤه لنظامه الاجتماعي الديني العالمي في حدوده المتعارفة والمقبولة من الناحيتين السياسية والقانونية. ويدلل الكتاب على ذلك بالإشارة إلى تجارب ناجحة للشيعة في بعض البلدان؛ إذ استطاعوا، ولو بشكل نسبي، تحقيق قدر كبير من التوازن بين الانتماء للمذهب والانتماء للوطن، وهو الحال مع العراق (بعد العام 2003)، وقبله الكويت وعمان وإيران والهند وآذربيجان ولبنان، والتي لا يُعدّ فيها التشيع خروجاً على مذهب الدولة، بينما تأخذ حالة التوازن هذه شكلاً مأساوياً ومعقداً في البلدان التي يتعرض فيها الشيعة إلى التهديد المجتمعي والسياسي الطائفي، كالعراق (قبل العام 2003) والبحرين والسعودية وسورية واليمن والمغرب وأفغانستان وباكستان.
ويعزز الدكتور المؤمن واقعية نظريته بقوله: ((ليس من الواقعية أن يعمل الشيعي على تجاوز انتمائه الوطني، وأيضا ليس من الواقعية أن يتجرد عن الانتماء لنظامه الديني الشيعي العالمي أيضاً، وهو يستطيع التوفيق بين عالمية انتماء الشيعي لمنظومته الدينية الاجتماعية، وبين محلية انتمائه لمنظومته الوطنية القانونية والسياسية، في ظل توافر الظروف الموضوعية المحلية لذلك؛ فهي انتماءات تكمل بعضها، ولا تعارض بينها، لأنّها بمجموعها تكرس صفات التدين والالتزام والوطنية في المجتمع الشيعي)).
ويرى الباحث بأن موضوع اندماج المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الأكثرية المذهبية وبمجتمع الدولة هو موضوع معقد ومتعدد الجوانب، وينطوي في تفاصيله على عقد واشتراطات وملابسات كثيرة، في مقدمتها تحديد دلالات الاندماج وأطرافه ومداخله وممهداته ومخرجاته وتبعاته، والحقوق والواجبات الملقاة على عاتق كل طرف؛ فالأنظمة الطائفية تريد من هذا الاندماج أن يذوب المجتمع الشيعي المحلي بمجتمع الدولة وبمجتمع الأكثرية المذهبية، وأن يرضى بمنظومة الحقوق والحريات والسياقات السياسية المذهبية التمييزية في الدولة كما هي، أمّا في ظل الأنظمة المعتدلة نسبياً؛ فإنّ الاندماج حاصل وناجح نسبياً قبل ظهور دعوات الاندماج، وهو ما نجده ــ مثالاً ــ في تجربتي سلطنة عُمان ودولة الكويت.
لكن مشروع الاندماج لا يمكن أن ينجح مع إصرار الأنظمة على سياساتها الطائفية التمييزية؛ فعملية الاندماج ليست مهمة أحادية تقع على عاتق المجتمع الشيعي أو الفرد الشيعي وحسب، بل إنها بالأساس مهمة أنظمة الحكم السنية ومؤسساتها الدينية، والجماعات السياسية والدينية والمدنية، لكي تبادر إلى توفير الظروف الموضوعية الواقعية لهذا الاندماج، فلن يحدث الاندماج الإيجابي الحقيقي المطلوب إلّا بأن يكون الشيعة مواطنون كاملي المواطنة، ودون أي تمييز طائفي. وبالتالي؛ فإنّ مدخل الاندماج الحقيقي يكمن في تغيير القوانين والأعراف والسياسات الطائفية الحاكمة في هذه البلدان.
أما الفصل الأخير؛ فيستشرف فيه الدكتور علي المؤمن مستقبل المرجعية الدينية الشيعية بعد رحيل السيستاني والخامنئي، وقبلها يطرح نماذج المرجعيات الشيعية المطلقة في القرن العشرين، ثم واقع مرجعيتي السيستاني والخامنئي، ومرجعيات الصفين الأول والثاني في حوزتي النجف وقم، واحتمالات وخيارات المرجعية النجفية بعد السيستاني، وخيارات واحتمالات المرجعية في ايران بعد الخامنئي، وكذا بديل السيد الخامنئي في الموقع القيادي. ويخلص المؤلف إلى أن نظام المرجعية الدينية الشيعية معقد جداً في حقيقته، وسهل في ظاهره؛ ففي داخل المؤسسة الدينية الشيعية التي تمثلها الحوزة العلمية، فواعل تتحكم أو تسهم في تحديد أعلمية المرجع الأعلى، دون تنسيق في الغالب بين تلك الفواعل، بل أحياناً تكون متدافعة ومتباينة في توجهاتها. ويشير إلى بعض أسماء الفقهاء الذين يحتمل أن يكونوا خلفاء في الموقع المرجعي بالنسبة لآية الله السيستاني، وفي الموقعين المرجعي والقيادي بالنسبة لآية الله الخامنئي، وهم خلفاء سترجحهم المؤسسات والجماعات الفاعلة في المؤسستين الدينيتين النجفية والقمية.
والحقيقة أن ترقب مرحلة ما بعد السيستاني وما بعد الخامنئي، لاتقتصر على الـ(400) مليون شيعي وحسب، بل هو ترقب عربي وإسلامي عالمي، بالنظر لما يمثله الموقعان المرجعي والقيادي لدى الشيعة من أهمية بالغة على مستوى العالم.
· قول أخير..
إذا كان علم الاجتماع العام يهتم بدراسة الأشكال الأساسية للمجتمع وقواه الأساسية؛ فإن علوم الاجتماع الخاصة تتناول الميادين الاجتماعية المختلفة؛ فهناك علم اجتماع الأدب وعلم الاجتماع السياسي وعلم اجتماع المعرفة، وكذا هناك علم الاجتماع الديني الذي يهتم بدراسة الظواهر الاجتماعية في ميدان الدين والعلاقات الاجتماعية للدين في الداخل والخارج، ويتناول دراسة الكيانات والعمليات الاجتماعية التي تنتمي لميدان الظواهر الدينية، ويعمل على تحليل أبنيتها والقوانين التي تخضع لها، وبالتالي؛ يمكن الحديث عن علم الاجتماع الديني المسيحي، وعلم الاجتماع الديني الإسلامي… إلخ، كما يمكن الحديث عن علم الاجتماع الديني السني، وعلم الاجتماع الديني الشيعي، دون خشية الاتهام بالطائفية أو المذهبية، أو الاتهام باللامنهجية، لأن المعالجات والمقاربات في هذه المجال هي مقاربات علمية تنتمي الى المنهجية الأكاديمية، ولا علاقة لها بالمذهبية والطائفية.
ومن هذا المنطلق؛ تُمثل محاولة المفكر الإسلامي العراقي الدكتور علي المؤمن، المحاولة العلمية الأولى التي تستهدف تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه «علم الاجتماع الديني الشيعي»، وهو العلم الذي يدرس ويحلل المجتمع الشيعي على المستوى المعرفي والسلوكي والانفعالي، ويبيِّن الأسس الاجتماعية والتاريخية والنفسية التي يتشكل عليها هذا المجتمع كطائفة وهوية، وقد كشف المؤلف عبر الفصول التسعة
المكونة لهذا الكتاب وكثير من بحوثه الاجتماعية الدينية، عن نوعیة المجتمع الإنساني الذي تم تأسيسه على فكر مدرسة أهل البيت، ومساراته التاريخية، كاشفاً عن هوية المجتمع ومكوناته، وقواعده النظرية، وتراكماته التاريخية التي يتكئ عليها النظام الاجتماعي الديني الشيعي.
وباعتبار الدين ومجتمعات مذاهبه هي ظواهر اجتماعية عالمية؛ فإن كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر علي المؤمن، يأتي بمثابة نظرية أو منهجية رائدة وملهمة، ليس فقط في ميدان الدراسات الشيعية فقط، أو كمحاولة لتأسيس علم اجتماع ديني شيعي وحسب، بل كمحاولة تمهيدية لتأسيس علوم اجتماع دينية مماثلة، حتى وإن اختلفت الطوائف والمذاهب محل الدراسة. ولذلك؛ أجد من الضروري أن يطّلع المفكرون والأكاديميون وعلماء الدين المسلمون السنة وكذا غير المسلمين، على هذا الكتاب وغيره من بحوث الدكتور المؤمن ذات الصلة بموضوع الاجتماع الديني، لفهم حقائق التشيع والشيعة ونظامهم الاجتماعي الديني وأسرار مرجعيتهم الدينية، بدلاً من التعرف عليها من خلال دراسات يكتبها خصوم الشيعة أو المستشرقون أو غير المتخصصين، لأن الاطلاع على حقائق المذاهب ومجتمعاتها من دراسات يكتبها المتخصصون من أبنائها؛ سيصحح أغلب الأخطاء والشبهات حيال هذه المذاهب والطوائف، ويمهد للتقارب بين المذاهب الإسلامية والأديان العالمية، وهو ليس هدفاً علمياً وحسب، بل هدفاً إنسانياً متعالياً.