اسم الكاتب : سعدية العبود
انحدر نهر دجلة في البطائح واتخذ من رسوبه الناعمة في ميسان مرتعا فخلف هورا يعد من اكبر اهوار العراق شاء ان يشاركه في ميسانه نهر الكرخة الإيراني مما جعل المدينة تغفو على مسطح مائي مساحته 80 كيلو متر طولا و30كيلو متر عرضا حوت تنوعا إحيائيا قل نظيره وتتغير هذه المساحة في الربيع ومواسم الأمطار لتقترب من 3000كيلو مترمربع وتنخفض في الصيف لتصل إلى ربع المساحة، وتختلف أعماق هذه المسطحات بين ثلاثة أرباع المتر وأكثر من ستة أمتار، هذه العلاقة بين النهر والبطحة خلفت هور الحويزة .ويعد الحموي ان التسمية جاءت من الحيازة وسميت المنطقة القريبة منه الحويزة او الاحواز.
لجمال المكان ورطوبته في اغلب مواسم السنة أصبح محطة استراحة لقوافل الطيور المهاجرة من سيبيريا إلى إفريقيا في الخريف وعودتها إلى موطنها في الربيع .حتى ان منطقة في الهور تسمى البجعة نسبة الى طيور البجع المهاجرة وقد يكون الحسن البصري قد التقى بجعته في هذا المكان الذي تقل فيه نسبة القصب لتبدو مفتوحة للطيور المهاجرة كي تستريح من عناء رحلتها واحسب أن هذه الراحة تولد الرغبة للتكاثر للطيور الاوراسية حيث تتكاثر في هذا الموضع الدافئ قبل أن توصل رحلتها وكأن هذا المكان خلق من اجلها .
بنى الاسكندر المقدوني مدينة ميسان (كان اسمها الإسكندرية )عندما احتل بلاد فارس بثلاث عقود قبل الميلاد وعندما توفى الاسكندر وضعفت دولته أنشأت مملكة ميسان من الدولة الفرثية وكان لها تاريخ وتأثير على المنطقة الممتدة من بابل الى الخليج العربي وقد شهدت المنطقة نشاطا تجاريا يربط بين الهند الى أعالي ووسط بلاد الرافدين لتبادل العطور والحرير والتوابل .ونتيجة الفيضانات أنطمر جزء كبير من المنطقة وضعفت مما أدى إلى انهيارها وسقوطها بيد الفرس بعد ان دام حكمهم خمسة قرون تعاقب على حكمها ثلاثة وعشرون ملكا .وعندما احتلها المسلمون سميت بكرخة ميسان ويعني اسم ميسان الماء الآسن باللغة الآرامية أو كما يسميها أستاذ التاريخ في جامعة ميسان (د هاشم الدراجي )بمدينه الإله آسن الذي أغنانا في الحديث عن تاريخ المنطقة. وذلك عندما استعرض تاريخ المدينة في الورشة المشار إليها، وأوضح انه توجد في المدينة أكثر من (400)موقع اثري يضم تاريخ الأديان والحضارات التي توطنت في هذه المنطقة من الصابئة واليهود والمسيح والمسلمين، متمثلة بقبر النبي العزير الذي أماته الله مئة عام وقبر عبيد الله بن علي بن أبي طالب والكميت وغيرهم من الشخصيات التاريخية والدينية، وكذلك أكثر من أربعين تلا لا يعلم ما يخبئ التاريخ فيها من أسرار، ولهذا لا يوجد مصادر موثقة وكافية للمؤرخين عنها بسبب عدم الاطلاع على أغوارها حيث اعتمدت الصور والكتابات الآرامية لبعضها والموثقة على العملات عند الحديث عن ملوكها وتاريخها .ربما بسبب حكم الفرس وسقوط الدولة يتجنب الفرس الحديث عن تاريخها أو الأسباب السياسية في العراق كون تاريخ المنطقة يحمل أثرا فارسيا جنب الحكومات السابقة في العراق عملية البحث والتنقيب في هذه التلال للوصول إلى تاريخ مستند إلى وقائع حيث فتح القليل منها وتركت ولم ينجز التنقيب في التلال المفتوحة وهذا ما عرضها إلى العبث والسرقة والتجاوز .
شوقنا إلى الزيارة ومشاهدة المعالم التاريخية والآثار أثار فضولنا ولكن لأسباب أمنية وأسباب أخرى ولضيق الوقت لم يتحقق اطلاعنا على المعالم التاريخية والأثرية الموجودة في المحافظة، لكن يبقى الهدف الثاني الأهم وهو زيارة الهور والاطلاع على طبيعته ومشاكله وما هو مجال التطوير الممكن إجراؤه والجهات المسؤولة عن ذلك وخاصة بعد أن أدرج ضمن لائحة التراث العالمي .
هور الحويزة محطتنا للانطلاق إلى العمق الملتصق بالتأريخ سنشهد عملية صيد الأسماك والطيور المألوفة في الهور وسنتمتع بطابق من السياح (خبز من دقيق الرز) أو خبز الطابق (خبز من دقيق الرز ولكن اسمك من السابق) وسنعيش لسويعات مع سكان الاهوار وسنتمتع بصناعاتهم المحلية التي تعتمد بالأساس على القصب والبردي .قال احدهم هل تناولتم الخريط تساءل آخر عنه قيل له انه حبوب الطلع للبردي يجمع قي موسم الربيع حيث (تخرط) المادة الطحينية وتوضع على قطعة قماش موضوعة فوق بخار الماء كي ترص على هيئة كتل وقد يوضع معها التمر أو الدبس لتصبح حلوى خاصة بهم ولها أغراض طبية حيث تستخدم في معالجة القولون، وأردف لقد أحضرت لكم منه نموذج كي تتذوقوه لأننا في غير موسمه .
وجوه لوحتها الشمس، الفقر والعوز يعلن بدون نطق اغلبهم هاجرا ثر تعرضهم إلى إبادة وتهجير جماعي أبان الحرب العراقية الإيرانية وعودة بعضا منهم كونهم مرتبطين بهذه الأرض عبر التاريخ فلا يوجد ما يشجعهم من مقومات الحياة على الاستيطان سوى حبهم للأرض، مهنتهم الرئيسة هي صيد السمك والطيور، وأجمل ما عندهم هو قيامهم بالعمل مشتركين حيث يبحر الزوج مع زوجته لحصاد القصب لأي غرض خاص بهم أو لنشر الشباك لصيد الأسماك، قد يتطلب العمل المبيت أكثر من ليلة، حتى شبابهم وأطفالهم تعودوا على العمل مع الطبيعة .
تم توزيعنا في الزوارق الخاصة بالسكان المحليين والمستخدمة للتنقل والصيد وانطلقنا عبر نهر الكحلاء احد فروع دجلة وعلى بعد أمتار قليلة توقفت الزوارق، هنا فوج عسكري يمنعنا من الدخول، لان الهور مشترك مع المياه الإقليمية لجمهورية إيران الإسلامية مع العلم بيننا وبينهم عشرات الكيلو مترات في هذا الهور الذي تبلغ حصة العراق فيه 80%. وبعد الاستفسار وإبراز الموافقات الرسمية والأوراق الثبوتية تحرك الموكب بعد انتظار ساعة ونصف في صباح مشمس لا يحجب شعاعها حاجز.
كانت الرحلة ممتعة حتى في المساحات التي يتوقف بها الزورق بسبب ضحالة المياه ومعالجته بتغير التوازنات والعودة للانطلاق مجددا .أشار دليلنا الناشط البيئي احمد صالح نعمة الذي ما أن يذكر اسمه حتى يتبادر إلى الذهن اسم الهور والنباتات البيئة والحيوانات الموجودة في الهور، حتى انه يحتفظ بمجوعة نادرة منها في بيته يراقب سلوكها وطبيعة تكاثرها حتى أصبح بيته متحف طبيعي .أشار إلى منطقة هنا وجد كلب الماء وسجله احد الباحثين باسمه (ماكس ويل )وأنا احتفظ بثلاثة منهم كانوا صغارا سأطلقهم حالما يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم احدهم كان متعرض إلى صعقة كهرباء وكان حاد المزاج وعصبي .ويتمتع حاليا بصحة جيدة .تبادر إلى ذهني ما قاله صبي حل ضيفا عندما كنا صغار، كان يتحدث عن الهور وقال ننادي على كلب الماء ونسأله (يا جليب الماي تشرب حليب لو جاي كان يرد علينا :جاي )لم يدر بخلدنا انه كان يسمع صدى صوته وكم تمنينا ان يتحاور معنا كلب الماء هذا كما يتحاور مع ضيفنا.
اشار الى نبات، هذا نبات الشفلح حيث حضر فريق بحثي من المانيا فقد اكتشف وجود قابلية لهذا النبات لتثبيط عمل الخلايا السرطانية وقد جمعنا كمية منه لغرض إجراء التجارب .
واستقربنا الأمر في جبشة لأحد الصيادين وقال :هذه المنطقة العميقة وهنا يستريح البجع وتسمى العذبة نسبة إلى عمر النضج للقصب عندما يصل إلى أعلى ارتفاع وتبان فيه النورات الزهرية حيث يتخذه الصيادون وحدة قياس للعمق عندما يقولون طوله عذبة، ويستخدم أهل الاهوار مفردات مختلفة لكل مراحل نمو القصبة ولكل عمر استخدام معين وتتدرج الأسماء كالأتي (محدار، عنكر، شهف، كصبة، كص وصنعة، عذبة، واخير عندما تصل إلى آخر مرحلة تسمى رباخ ).تتحرك المستعمرات القصبية حسب شدة الرياح ومساحتها لتنتقل إلى مكان آخر وذلك لأنها طافية على الماء بفعل الفجوات الموجودة في الساق .يعتمد السكان على صيد الأسماك والطيور وقليل منهم يزرع الشلب، هؤلاء الصيادون تأقلموا مع هذه الطبيعة وسبروا أغوارها وكيفوها وفق متطلباتهم إلا إن مردودات عملهم الشحيحة جعلتهم يلجئون إلى أساليب قسرية للصيد بدون ضوابط أو التزام بقوانين مما يجعل التواجد الحياتي للأسماك أو الطيور مهدد بالانقراض، مما يتطلب تفعيل قوانين الصيد وتحديد آليات الصيد وخاصة للنماذج النادرة من الأحياء وحظر استخدام الصعقات الكهربائية في الصيد والبحث عن بدائل أخرى تحقق لهم مردود اقتصادي وكالاتي
1- إنشاء محطات استراحة (جبشة )مزودة بما يحتاجه السائح منشئة من المواد الأولية المتوفرة لديهم كجزء من حفظ التراث .
2- إنشاء مراكز استلام الحليب، لغرض تصنيع منتجات الألبان مع دعمهم بتوفير الأعلاف المركزة لضمان تغذيتها بشكل جيد.
3- تحديد المناطق السياحية وتسهيل دخول الوافدين الى المنطقة وتأمين حمايتها .
4- توعية السكان بضرورة الانفتاح على السياحة واستقبال الوافدين .
5- إنشاء أكشاك صغيرة مزودة بما ينتج من الصناعات المحلية في المنطقة لضمان تسويقها الى الوافدين
6- تثقيف السكان بضرورة الاهتمام بنظافة البيئة وظهورهم بمظهر مناسب يكون مفتاح لتقبل صناعاتهم الغذائية وجعلها مستساغة .
7- رفع الطما لتأمين مياه بمستوى مناسب لانسيابية حركة الزوارق.
قد يطول الحديث إن أردنا أغناء الموضوع ولكنه يتطلب إمكانيات اكبرمن قدراتهم وجهات تتبنى الإنفاق والاستثمار والتخطيط ولكني تحدثت عن الجوانب التي يتبناها سكان الهور لتعظيم مواردهم .كانت الرحلة بمثابة مغامرة ممزوجة بحب الاطلاع عن كثب على الحياة في الهور وإمكانية تقديم المساعدة.نتمنى من الجهات صاحبة القرار تبني الموضوع قبل فوات الأوان.