الركام يتحدث بلكنة أميركية: قراءة في قصف أبراج غزة‎

ايهاب مقبل

أصبح مشهد الأبراج المنهارة في غزة، تحت وطأة القصف الإسرائيلي، واحدًا من أكثر الصور حضورًا في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وأشدها إثارة للجدل في النقاشات الدولية حول طبيعة الحرب. فاستهداف هذه الأبراج لم يعد مجرد عمل عسكري محدود، بل تحول إلى استراتيجية متكررة تكشف تباينًا صارخًا بين الخطاب الرسمي الإسرائيلي والأهداف غير المعلنة التي يمكن استنتاجها من السياق الميداني والسياسي.

أولاً: الأهداف الرسمية المعلنة
وفق التصريحات العسكرية الإسرائيلية، فإن الأبراج المستهدفة ليست مجرد مبانٍ سكنية أو تجارية، بل تتحول إلى “مراكز عسكرية مقنّعة”. إذ يُقال إنها تضم غرف عمليات لفصائل المقاومة، أنظمة مراقبة متطورة، ومخازن أسلحة، أو أنها تُستخدم كغطاء لقيادات ميدانية. هذه المبررات تمنح الكيان الصهيوني إطارًا قانونيًا ظاهريًا لتصوير القصف باعتباره “ضرورة عسكرية”، مدعومة بدعوى الالتزام بإجراءات تحذيرية مثل الاتصالات الهاتفية أو إطلاق قذائف إنذارية قبل الاستهداف.

ثانيًا: الأهداف غير الرسمية – العقاب الجماعي والهندسة الديمغرافية
غير أن التدقيق في نتائج هذه الضربات يكشف أن أثرها يتجاوز بكثير ما يُسمى “الهدف العسكري المشروع”. فالأبراج، بما تمثله من واجهة حضرية ومساكن لعشرات العائلات، تتحول إلى رمز اجتماعي واقتصادي لطبقة وسطى ناشئة. تدميرها إذًا يُضعف النسيج المدني ويضاعف الأعباء الإنسانية، بحيث يصبح النزوح خيارًا قسريًا أمام السكان. هنا تتبدى ملامح سياسة “الهندسة الديمغرافية” القائمة على إفراغ الأحياء المكتظة وتفكيك البيئة الحضرية، بما يخدم أهداف السيطرة والإخضاع.

ثالثًا: الأهداف الخفية – الحرب النفسية والرسائل الإقليمية
إلى جانب التهجير، يخدم القصف بعدًا نفسيًا عميقًا يتمثل في زرع الخوف لدى المدنيين، ودفعهم للشعور بعدم جدوى البقاء في مدينة محكوم عليها بالدمار المتكرر. الأبراج المرتفعة، التي كانت شاهدة على صمود العمران رغم الحصار، تتحول إلى ركام خلال دقائق، في رسالة رمزية تقول: “لا مكان آمن في غزة”.

وعلى المستوى الإقليمي، يمكن قراءة استهداف الأبراج باعتباره رسالة ردع موجهة إلى أطراف أخرى: إلى الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية، إلى حزب الله في لبنان، وإلى إيران واليمن والعراق وسوريا. فالمغزى يتجاوز حدود غزة ليؤكد استعداد إسرائيل لتدمير البنى المدنية الكبرى في أي ساحة مواجهة، حتى لو كانت ذات طبيعة مدنية خالصة.

رابعًا: البعد القانوني والإنساني
من منظور القانون الدولي الإنساني، يثير استهداف الأبراج إشكالية عميقة تتعلق بمبدأي التمييز والتناسب. فإذا كانت الأبراج تحوي بعض الاستخدامات العسكرية، فإن كلفة تدميرها – من تشريد جماعي، وانهيار بنى خدمية، ومحو رموز عمرانية – تفوق أي فائدة عسكرية محتملة. وهنا يظهر التناقض بين التبرير الإسرائيلي المعلن والنتائج الكارثية على الأرض، التي تجعل من القصف أقرب إلى سياسة عقاب جماعي محظورة.

خامسًا: الموقف الأميركي ودور السلاح
لا يمكن إغفال البعد الأميركي في هذه المعادلة. فأمريكا الشمالية، بوصفها المزوّد الأول لإسرائيل بالأسلحة المتطورة – من القنابل الموجهة بدقة إلى الطائرات القتالية – تجد نفسها طرفًا مباشرًا في هذا الجدل. ورغم الانتقادات الدولية المتصاعدة، غالبًا ما تكتفي واشنطن بالتعبير عن “القلق” أو الدعوة إلى “ضبط النفس”، دون أن تقرن ذلك بأي ضغوط حقيقية لوقف استهداف الأبراج.

هذا الموقف يعكس ازدواجية واضحة: فمن جهة، تؤكد أمريكا الشمالية التزامها بالقانون الدولي الإنساني، ومن جهة أخرى تواصل تزويد تل أبيب بالذخائر التي تُستخدم في تدمير البنى المدنية. وبذلك، تتحول واشنطن من مراقب محايد إلى شريك ضمني في استراتيجية الحرب على العمران المدني، بما يضعها تحت طائلة النقد الأخلاقي والسياسي، بل وربما القانوني، لكونها تمكّن طرفًا من تنفيذ ضربات تُصنّف في نظر كثير من خبراء القانون كعقاب جماعي.

سادسًا: الأبعاد الاستراتيجية والسياسية
لا يمكن فصل تدمير الأبراج عن سياق أوسع يتصل بالعملية السياسية. فالدمار الممنهج يقوّض فرص إعادة إعمار سريعة، ويغلق عمليًا أي أفق لتسوية أو استقرار طويل الأمد. بمعنى آخر، هو تعبير عن استراتيجية “قطع الطريق” أمام أي مشروع وطني فلسطيني قادر على الصمود في غزة. كما أن التدمير المتكرر يرسل رسالة مفادها أن أي محاولة لبناء حياة مدنية طبيعية ستظل رهينة للقرار العسكري الإسرائيلي، بدعم لوجستي وسياسي أميركي.

خلاصة تحليلية
تختزل الأبراج في غزة صراعًا يتجاوز ثنائية “عسكري/مدني”. فهي في الرواية الرسمية “مراكز إرهابية متنكرة”، بينما في التحليل الأعمق تتحول إلى ضحية لسياسات مركبة: سياسة الردع الإقليمي، والعقاب الجماعي، والهندسة الديمغرافية، والحرب النفسية، مدعومة بسياق دولي يوفر الغطاء السياسي والعسكري لها.

إن استهداف الأبراج ليس حربًا على الخرسانة بقدر ما هو حرب على الذاكرة الجمعية والهوية الحضرية لسكان غزة. وفي ظل استمرار الدعم الأميركي العسكري والسياسي لإسرائيل، يصبح هذا الاستهداف جزءًا من معادلة أوسع تُكرّس اختلال موازين القوة وتطيل أمد المأساة الإنسانية والسياسية في القطاع.

انتهى