اسم الكاتب : رياض سعد
دأبت القيادات الجاهلة والمنكوسة والعميلة وفي مختلف الاصعدة والمجالات ؛ على ترسيخ ثقافة القطيع والعبودية بين اوساط الامة العراقية , وذلك من خلال برمجة عقول العراقيين وصناعة الرأي العام ؛ بواسطة جيوش جرارة من الاعلاميين والكتاب والمثقفين ورجال الدين ؛ والمختصين في مجالات الاعلام والثقافة وعلمي الاجتماع والنفس وغيرهما ؛ بالإضافة الى السيطرة التامة على وسائل الاعلام وقنوات الثقافة العامة و مؤسسات التربية والتعليم .
الناس لو تركوا على طبائعهم وفطرتهم الانسانية لرفضوا العبودية واستهجنوا الخنوع والذل ؛ لانهم ولدوا احرارا , والحر يكره القيود والاتباع الاعمى ؛ الا ان هؤلاء الابالسة والشياطين يضحكون على ذقون العراقيين من خلال دعاوى القداسة والاهمية والقيادة , وتصدير الافكار المغلوطة والرؤى المنكوسة والعقائد السوداوية والأيدولوجيات المتعصبة والمغلقة ؛ مما يدفع البعض لركوب موجة العبودية بطواعية ذاتية … ؛ اذ اضحوا العوبة بيد اشباه القادة واقزام الرجال , واضحت هذه الظاهرة الا وهي ظاهرة : الميل الى العبودية تحت زعامات فارغة المحتوى لا تمتلك ادنى المقومات التي تجعل الناس تقدسها بهذه الكيفية المبالغ فيها , ظاهرة مستشرية بين ابناء الامة العراقية .
ربما غابت العبودية بصورتها القديمة لكن يبدو انها استبدلت بعبودية من نوع آخر؛ وكلتاهما عبودية من زاوية الثقافة ومنظومة القيم والفكر الحر ، لكونها في كلتا الحالتين هي خضوع احد لاحد اخر لدوافع في اغلبها غير مفهومة او اخلاقية , وتشير بالضرورة الى ( حيونة ) البشر وابتعاده عن ادميته وانسانيته … ، ففي ايام الجاهلية كانت العبودية تفرض قسراً على الانسان , بسبب ظروف القوة والنفوذ التي يتمتع بها كفار قريش وساداتها وضعف الناس البسطاء ومظلوميتهم … ؛ و لكن الغريب والعجيب ان ظاهرة العبودية التي حاربها الاسلام في اغلب مدارسه المعرفية لاسيما العراقية منها , اصبحت عبودية طوعية يسعى اليها الشخص بنفسه بل ويعتبرها شرفا , ويغلفها بالدعاوى الدينية والسياسية وغيرهما . (1)
حتى اضحى الرأي الشخصي في هذا الموضوع او ذاك , رأيا مستنسخاً بين الأفراد في مجتمع يتخذ دائماً شكل القطيع ، لا شكل التنّوع الفردي فيه , والرأي الحر ؛ و هذا ما تكرّس في العقود الأخيرة من تاريخ العراق … ؛ فأغلبنا لا يريدون الخروج من عباءة القطيع والعبودية بشكلها الجديد ، فهؤلاء يتبعون فلان الفلاني ويصفون رأيه البسيط والمتواضع بكونه : رأيا استراتيجيا وتاريخيا … ؛ لتبرير عبوديتهم وخضوعهم له واعجابهم الاعمى به .
حتى اضحت أكثرية الآراء المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي واوساطنا الاجتماعية والثقافية والاعلامية متكرّرة ومستنسخة وسمجة وسطحية ، وقد تجانب الصحة والحقيقة والواقع , بل انها اريد لها ان تورث للأجيال اللاحقة , كي تستمر الازمة وتتوالى الانتكاسات والاحباطات … ؛ بينما يكمن الحق والحياة الحرة والتطور والازدهار في تعدّد الآراء وتناقضها واختلافها ، لا في استنساخها وتشابهها وتكرارها ، فالحرية الفكرية والشجاعة الادبية ومخالفة القطيع ؛ هي الظاهرة الايجابية القادرة على إعطاء منطق المصارحة حقها ، والمناسبة للخروج من دائرة التكرار الممل والاستنساخ السمج .
نعم قد يختار” الملايين “وبكامل” إرادتهم العبودية العقلية ، وما يتبعها من اختلال بالإدراك وضبابية بالوعي وتآكل للعقل واستنزاف للأعمار والحرمان من الاستمتاع “بزهوة” العقل وعزّته وشموخه وتطوره وزيادة براحه .
و تتمثل العبودية العقلية، أحيانا، في محاولات “الاختباء” بالتقاليد والعادات والاعراف والعقائد الدينية والتوجهات الحزبية المغلقة والرؤى الرجعية ، خوفا من تجربة الجديد ومنح العقل فرصته “المشروعة” بالتجربة ، و لسان حالهم يردد : “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”، أو “اللي نعرفه أحسن من ال ما تعرفه “، أو “امشي شهر ولا تطفر نهر “؛ وهذا لا يعني اننا نطالب بالتخلص من كل الموروثات أو التمرّد عليها ورفضها بشكل قطعي وشامل ، بل النظر إليها بتعقّل وتروي ، لنرى ما يفيدنا وما يضرّنا منها ، “فنختار” الأولى ونستبعد الثانية… .
يسجن الكثيرون أنفسهم بالعبودية العقلية ، بتكرار ما تنتجه عقول الآخرين او ما تتفوه به السنتهم ؛ والمؤكّد أننا إن لم نخاطر، من وقت إلى آخر، بخطواتٍ محسوبة ، فلن ننجح، ولن نحقق ذواتنا، وسنعيش كأرقام وسنمر بالحياة ولن نعيشها، وهي حياة واحدة لن تتكرّر… ؛ فلابد لنا من تجربة الجديد وخوض غمار الحياة واكتشاف اسرارها ومعالمها ؛ بأنفسنا لا اعتمادا على ما قاله الاخرون ؛ فالكثير منا يسلك في الحياة مسلك : ( ذبها براس عالم واطلع منها سالم , وقال الراوي , وسمعت من فلان الثقة … الخ ) ؛ ان احترام الصوت الخاص للإنسان من أهم مقوّمات تقدير الذات، ولا غنى عنه للفوز بحياةٍ ناجحة، والتمتع بصحة نفسية واكتساب “اللياقة” العقلية واحتضانها ما بقي صاحبها على قيد الحياة والعكس صحيح. والعقل إن لم يُستخدَم يضمُر، وإن ضمُر سبّبَ لصاحبه التعاسة والهوان على نفسه، وأصبح فريسة “سهلة” لكل من يتنبه إلى ذلك، فيسهل عليه السيطرة عليه “واقتياده” ليفعل ما يريد، ولو كان ضد مصالحه ويناهض رغباته؛ وسيفعلها برضوخ، وكأنها السبيل “لإنقاذه” من كارثة.
نعم يصبح بعضهم عبيد عقول الآخرين بتبرير أخطاء من يحب تفكيرهم، وأحيانا خطاياهم. ويصبحون ملكيين أكثر من الملك، ويتعاملون مع من يثقون بتفكيرهم وكأنهم آلهة لا يخطئون، يدافعون عنهم باستماتة ، ويحولونهم إلى آلهة، ويصبحون هم العبيد الذين يمنعون أنفسهم من التفكير في صحّة ما يسمعون… ؛ بينما يصنع آخرون العبودية العقلية عند مواجهتهم أي مشكلة، فيجهضون محاولات العقل لحلها، ويصنعون ضيق عقولهم ويمنعونها من التحرّك، ويضعونها بجبيرة تمنع الحركة ، ويسارعون بالاستعانة بمن “يرونهم” قادرين على إيجاد الحلول للمشكلات . (2)
غالبية الناس كما يبدو لا يمتلكون الصفات التي تعزز سلوك الحرية حيث لا توجد إلا في حوالي من 2% من الناس ؛ وبالتالي فغالبية الناس يظهرون سلوك العبودية ونفسية القطيع ويحتاجون دائما لإرضاء رغبة العبودية هذه والبحث عن سيد يفهم أحسن منهم ويعرف سبل النجاح ويفكر لهم … ؛ ويصير الشخص عبدا ناعما لسيده القائد وهو يتوهم أنه حر… وقد يكون عالم فيزياء فلكية ويختار سيدا له يعتقد أنه يفهم أمور الكون أحسن منه حتى لو كان سيده جاهلا بذلك …!!
لم تعد العبودية رقا وسوق نخاسة بل صارت أسوأ. العبودية الفكرية هي أفظع وأشنع أنواع العبودية على الاطلاق … , فهي تحرم المرء من حريات أساسية كحرية التساؤل وحرية التفكير وحرية الاعتراض … .
البعض لأنه كسول وغير منتج وخامل يكره الحرية بكل اشكالها ؛ واليكم هذه القصة التي تبين لنا نماذج من هؤلاء العبيد ؛ فقد جرت هذه القصة بين احد النبلاء وجاريته : (( … .. كان النبيل قد أعاد التفكير في أمور عدة من حياته ؛ اختلفت نظرته لأشياء كثيرة من بينها نظرته للإنسان عامة .. و للحرية خاصة ؛ بيد أن مواقف متباينة قد مر بها في حياته خلقت داخله معان جديدة لمبدأ الملكية و التملك .. القواعد و الشروط ؛ ربما كل ذلك قد دفعه لأن يبعث في طلب جاريته محدثاً إياها :
_ لقد قررت اليوم أن أخرجك من نطاق العبودية .. سوف أحررك و لتخرجي الى البراح حيث تشائين… أنت الآن حرة تفعلين ما يحلو لك فى المكان و الزمان الذى تبغين .
تسمرت الجارية قليلاً لا تفهم ما يجرى .. ربما أخذت تعيد الكلمات على مسامعها مستعيدة بعض من وقعها عليها … تتوتر ؛ يبدأ القلق يدب فى أطرافها .. و تقول :
_ لا أفهم يا سيدى .. لا أفهم شيئا .
يتعجب النبيل ثم يقول :
_ ما الذى لا تفهميه ؟ … سوف أحررك ؛ أنت الآن لم تعدى عبدة لي ؛ و أنت حرة الآن فيما تبغين .
تبدأ الجارية في العويل .. ينتابها إحساس أن كل شيء يضيع من حولها .. و تقول :
_ لم يا سيدى ؟! .. أنا لم أفعل شيئاً لتغضب مني ! .. هل أسأت في معاملتك ؟! .. هل أهملت لك شيئاً ؟! .. هل تجنبت فعل ما تبغي ؟! .. لم يا سيدى تريد أن تلقي بي فى العراء ؟! .. بأي جريرة ؟! .
_ لا جريرة لك و لقد كنت نعم الخادمة ؛ لكنني أبغي لك الصلاح .. هل تكرهي أن يكون أمرك بيدك وحدك ؟! .. هل تكرهي أن تتحرري ؟! .
_ أقبل الأرض تحت قدميك يا سيدى ألا تفعل بي هذا .. سوف أظل جارية لك و سوف أجتهد أكثر في خدمتي لك .. لكن لا تفعل هذا .. لا تفعله .
و أخذت تقبل قدمه بالفعل في حين تسمر هو مندهشاً لا يفهم ما يحدث .. وقتها ؛ أعادت أشياء عدة التشكل في وجدانه من جديد .. لكنه لم يتخلى عن دهشته بعد ذلك … ! ))
وصدق من قال : (( لو أمطرت السماء حرية لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات ))
ولا تكمن خطورة هؤلاء العبيد على انفسهم فقط بل على الاحرار الاخرين ايضا ؛ واليكم هذه القصة التي تبين لنا حقيقة هذا الامر والظاهرة الخطيرة : (( … بعد أن انتهى الجزار من سن سكينه و تجهيز كلاليبه ، دخل الى وسط الزريبة فأدركت الخرفان بحسها الفطري أن الموت قادم لا محالة و وقع الاختيار على أحد الخراف، وأمسك الجزار بقرنيه يسحبه إلى خارج الزريبة ولكن ذلك الكبش كان فتيا وذا بنية قوية فتجاهل الوصية رقم واحد من دستور القطيع وهي بالمناسبة الوصية الوحيدة في ذلك الدستور والتي تقول: حينما يقع عليك اختيار الجزار فلا تقاوم فهذا لن ينفعك بل سيغضب منك الجزار ويُعرِّض حياتك وحياة أفراد القطيع للخطر ،
قال هذا الكبش في نفسه : هذه وصية باطلة ودستور غبي؛ فإذا كانت مقاومتي لن تنفعني في هذا الموقف؛ فلا أعتقد أنها ستضرني و انتفض ذلك الكبش وفاجأ الجزار واستطاع أن يهرب من بين يديه ليدخل في وسط القطيع ،فنجح في الإفلات من الموت الذي كان ينتظره و لم يكترث الجزار بما حدث كثيرا فالزريبة مكتظة بالخراف فأمسك الجزار بخروف آخر وجره من رجليه وخرج به من الزريبة وكان الخروف الأخير مسالما مستسلماً ولم يبد أية مقاومة إلا صوتا خافتا يودع فيه بقية القطيع .
وهكذا بقيت الخراف في الزريبة تنتظر الموت واحداً بعد الآخر، بينما كان الكبش الشاب يفكر في طريقة للخروج من زريبة الموت وإخراج بقية القطيع معه و كانت الخراف تنظر إلى الخروف الشاب وهو ينطح سياج الزريبة الخشبي مندهشة من جرأته وتهوره و لم يكن ذلك الحاجز الخشبي قوياً؛ فقد كان الجزار يعلم أن خرافه أجبن من أن تحاول الهرب و نجح الكبش بكسر الحاجز و نادى الرفاق ليهربوا ولكنهم كانوا جميعاً يشتمونه ويلعنونه ويرتعدون خوفاً من أن يكتشف الجزار ما حدث.
و اجتمعوا و تحدث أفراد القطيع مع بعضهم في شأن ما اقترحه عليهم ذلك الكبش من الخروج من الزريبة والنجاة بأنفسهم من سكين الجزار.. وجاء القرار النهائي بالإجماع مخيباً وليس مفاجئاً للكبش الشجاع ، و في صباح اليوم التالي جاء الجزار إلى الزريبة ليكمل عمله؛ فكانت المفاجأة أن سياج الزريبة مكسور ولكن القطيع موجود داخل الزريبة ولم يهرب منه أحدـ ثم كانت المفاجأة الثانية حينما رأى في وسط الزريبة خروفاً ميتاً.. وكان جسده مثخناً بالجراح وكأنه تعرض للنطح … !!
نظرت الخراف بالاعتزاز والفخر بما فعلته مع ذلك الخروف (الإرهابي) الذي حاول أن يفسد علاقة الجزار بالقطيع ويعرض حياتهم للخطر و كانت سعادة الجزار أكبر من أن توصف.. حتى إنه صار يحدث القطيع بكلمات الإعجاب والثناء : أيها القطيع , كم أفتخر بكم وكم يزيد احترامي لكم في كل مرة أتعامل معكم ..أيتها الخراف الجميلة.. لدي خبر سعيد سيسركم جميعاً , وذلك تقديرا مني لتعاونكم منقطع النظير.. أنا وبداية من هذا الصباح لن أُقْدِم على سحب أي واحد منكم إلى المسلخ بالقوة كما كنت أفعل من قبل.. فقد اكتشفتُ أنني كنت قاسياً عليكم، وأن ذلك يجرح كرامتكم.. كل ما عليكم أن تفعلونه يا خرافي الأعزاء أن تنظروا إلى تلك السكين المعلقة على باب المسلخ.. فإذا لم تروها معلقة فهذا يعني أنني أنتظركم داخل المسلخ ؛ فليأت واحد بعد الآخر؛ وتجنبوا التزاحم …!! ))
العبد لا يفكر , هو مسير و كفى ؛ يسمع الإصدارات الرسمية و يعض الشفاه … ؛ هو متفرج ينتظر من السلطان او القائد أن يفعل ؛ فيصفق ؛ يقدس السلطة والقيادة و يرى فيها الأب و الأم و المخلص ؛ هو بدونهم لا شيء … ؛ العبد لا يستطيع أن يترك سيده ؛ حزمة الخوف من المجهول داخله تقيده … ؛ و لتكتمل المعادلة وجب ألا يفكر في هذا المجهول المزعوم … ؛ العبد لا يتحرك … ؛ هو ينتظر من السيد أن يأمره ؛ فيفعل … ؛ لا يمتلك قراره ؛ و لا يريد أصلا أن يملكه ؛ يخاف من لا شيء … ؛ و يفرح مما لا فرح فيه … ؛ لا يندهش فالدهشة تستدعى التفكير … ؛ لا يناقش فالمناقشة تستدعى الوعي … , لا يختلف فالاختلاف يستدعي الإدراك .
العبد تستهويه روح القطيع … , هو يجد نفسه فعلياً هنا ؛ لكن لا تنسى أن كل قطيع يحتاج الى راعى يمسك له العصا … , يضرب ؛ فيتحرك القطيع .
العبد يقاوم اي تغيير في محيطه … ؛ يقاوم الجديد ؛ يخشاه و يتجنبه … , يستمر في دحره و محاولة التخلص منه … ؛ لكن حينما ينتصر هذا الجديد ؛ يهلل له العبد و يقترب منه و يتمسح فيه كالكلب … ؛ العبد يركض وراء القوى ؛ حتى و إن لم يكن يحبه من الأساس … , يحاول أن يكسب وده ؛ لكن لو ظهر الأقوى فإنه يعود الى كرهه … ؛ فيغازل الأقوى و يتقرب له … . (3)
…………………………………………..
- العبودية الطوعية / عزيز ملا هذال / بتصرف كبير .
- في أعراض العبودية العقلية / نجلاء محفوظ / بتصرف .
- عبودية القطيع! / مصطفى جمال هاشم / بتصرف .