عجز في زمن الوفرة

ضياء المهندس

على الرغم من ارتفاع أسعار النفط خلال النصف الأول من عام 2025، واستقرار معدلات التصدير فوق 3.3 ملايين برميل يومياً، سجّل العراق عجزاً مالياً قدره 12.15 تريليون دينار، وفقاً لبيانات وزارة المالية والبنك المركزي العراقي.
هذا العجز يأتي في ظل تحقيق البلاد إيرادات غير نفطية تاريخية بلغت 10% من إجمالي الإيرادات العامة — وهي نسبة غير مسبوقة منذ عام 2003 — ما يطرح سؤالاً محورياً: إذا كانت الإيرادات في تصاعد، فأين تتسرب الأموال؟

أولاً: تفكيك أرقام الموازنة العامة لعام 2025

تُظهر البيانات الرسمية الصادرة حتى نهاية الربع الثالث من السنة المالية ما يلي:

المؤشر المالي القيمة (تريليون دينار) النسبة من الإجمالي

الإيرادات الكلية 72.03 100%
الإيرادات النفطية 64.96 90%
الإيرادات غير النفطية 7.07 10%
النفقات العامة 84.18 117% من الإيرادات
النفقات الجارية 62.27 74% من الإنفاق
النفقات الاستثمارية 13.06 15% من الإنفاق
العجز المالي 12.15 14.4% من النفقات

الأرقام تُظهر بوضوح أن العجز لم يكن نتيجة نقص في الإيرادات، بل نتيجة تضخم النفقات الجارية التي ابتلعت ثلاثة أرباع الموازنة، فيما ظلت النفقات الاستثمارية محدودة، مما يعني أن الدولة تصرف أكثر مما تبني.

ثانياً: الأسباب الكامنة وراء العجز

  1. تضخم الإنفاق التشغيلي

الرواتب والأجور شكلت ما يقرب من 48% من النفقات الجارية.

مخصصات الدعم الاجتماعي والبطاقة التموينية ارتفعت بنسبة 22% مقارنة بعام 2024.

تضاعف الإنفاق على الكهرباء والمياه إلى 6.4 تريليون دينار، بسبب ارتفاع تكاليف الوقود والصيانة.

  1. انخفاض الانضباط المالي في المحافظات

تقرير ديوان الرقابة المالية أشار إلى أن 12 محافظة صرفت أكثر من مخصصاتها الاستثمارية بنسبة تجاوزت 130% نتيجة سوء إدارة المشاريع المتلكئة.

  1. الديون والفوائد

خدمة الدين العام الداخلي والخارجي بلغت نحو 4.7 تريليون دينار، أي ما يعادل 6% من إجمالي النفقات العامة.
ويُتوقع أن ترتفع هذه النسبة في عام 2026 في حال استمرار العجز الحالي.

ثالثاً: مفارقة الإيرادات غير النفطية

رغم أن الإيرادات غير النفطية بلغت 7.07 تريليونات دينار — وهي الأعلى منذ 2003 — إلا أن أثرها بقي محدوداً بسبب:

  • ضعف التحصيل الضريبي، حيث لم يتجاوز نصف المكلفين المسجلين فعلياً دفع الضرائب.
  • تهريب الكمركي عبر المنافذ الحدودية، إذ تشير هيئة المنافذ إلى خسائر سنوية تصل إلى 3 تريليونات دينار بسبب الفساد والازدواج الجمركي.
  • ضعف تفعيل الجباية المحلية في البلديات والخدمات العامة.

بمعنى آخر: الإيرادات غير النفطية زادت رقمياً لكنها ما زالت عاجزة هيكلياً عن دعم الموازنة.

رابعاً: قراءة في المخاطر المستقبلية

إذا استمر العجز بهذا النمط، فالعراق مقبل على ثلاثة سيناريوهات خطيرة:

  1. تمويل العجز عبر الاقتراض الداخلي، ما سيؤدي إلى امتصاص السيولة من النظام المصرفي ورفع التضخم.
  2. تخفيض الإنفاق الاستثماري في مشاريع البنى التحتية، مما يبطئ النمو الاقتصادي ويزيد البطالة.
  3. الاعتماد المستمر على النفط بنسبة 90%، ما يجعل الموازنة رهينة الأسعار العالمية وتقلباتها.

وقد حذّر البنك الدولي في تقريره الأخير (أيلول 2025) من أن استمرار العجز فوق 10% من الناتج المحلي الإجمالي سيهدد استقرار سعر الصرف واحتياطات البنك المركزي خلال ثلاث سنوات فقط.

خامساً: إصلاحات مطلوبة… قبل أن يتفاقم النزيف

لكي يتفادى العراق دوامة العجز السنوي المزمن، لا بد من إصلاحات واقعية تشمل:

  1. ضبط الإنفاق التشغيلي عبر مراجعة سلم الرواتب وتوحيد المخصصات.
  2. إصلاح النظام الضريبي والكمركي وربط المنافذ إلكترونياً للحد من التهريب.
  3. تعزيز الشفافية المالية عبر نشر بيانات الإنفاق الشهرية بشكل علني.
  4. إعادة تفعيل القطاع الخاص ليكون مساهماً في الإيرادات، لا عبئاً على الموازنة.
  5. توجيه 25% من النفقات الاستثمارية للبنى التحتية الإنتاجية بدل المشاريع غير المدروسة.

الخاتمة:
العجز ليس قدراً

العراق اليوم يقف على مفترق طرق مالي.
فهو يمتلك موارد هائلة من النفط، والزراعة، والضرائب، والسياحة، لكنه ما زال يعاني من خلل في الإدارة المالية لا في القدرة الاقتصادية.
إن معالجة العجز لا تبدأ بالأرقام، بل بإرادة سياسية حقيقية تعيد ترتيب أولويات الصرف من “الترضية” إلى “التنمية”.

فالعراق لا يحتاج إلى موازنات ضخمة بقدر ما يحتاج إلى عقول منضبطة تعرف أن المال العام ليس كعكة تُقسم، بل أمانة تُصان.

البروفسور د.ضياء واجد المهندس
رئيس مجلس الخبراء العراقي