بين ساركوزي في “لا سانتيه” وأوغاد أساطين الفساد بالعراق: متى تشرب عروق الفاسدين رعشة الخوف؟

صباح البغدادي

يا للعجب! في عالم يتغنى بالديمقراطية والعدالة، يُسجن رئيس دولة عظمى مثل نيكولا ساركوزي في سجن “لا سانتيه” الباريسي الفاخر – نعم، فاخر مقارنة بجحيم السجون العراقية – لأنه تجرأ على قبول تمويل حملته الانتخابية عام 2007 من جيوب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، والذي كان يقال عنه بانه أشبه من يوزع الدولارات كأنها حلوى في عيد ميلاد! ثلاث سنوات حكم عليه، وفي أول يوم له داخل الزنزانة، تخيلوه: الرجل الذي كان يرتدي بدلات أرماني ويأكل في قصور الإليزيه، الآن يتناول وجبة سجناء عادية، محاطاً بجدران باردة تذكره بأن السلطة زائلة، والفساد يُكشف عاجلاً أم آجلاً. هذا هو الدرس الفرنسي الصارخ: حتى في أوروبا “المتحضرة”، لا يفلت المستغلون لمناصبهم من قبضة القانون، مهما كانت أكمامهم مليئة بالأسرار الدبلوماسية أو المليارات المخفية! وبينما كان ساركوزي، يتذوق طعم الإذلال في اليوم الأول له داخل زنزانته ، كان سادة اساطين الفساد في العراق وما يزالون يتناولون عشاءهم الفاخر في قصورهم المنيفة، يضحكون على شعب أوجعوه وجوعوه حتى العظم، ويسخرون من قضاء عاجز عن مسك عصا العدالة. فهذا المشهد السريالي في باريس لم يكن مجرد محاكمة لرئيس سابق؛ لقد كان درساً صارخاً في معنى “سيادة القانون”. القانون الذي لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، الذي لا يحابي رئيساً ولا موظفاً بسيطاً. إنه القانون الذي يضع الجميع تحت قدم المساواة، فإما الكرامة والنزاهة، وإما العار والقيود. ساركوزي دفع ثمن مخالفته للقانون، ليس لأنه سرق الملايين فقط ، بل لأنه خدش مبدأ الشفافية والنزاهة في النظام الديمقراطي. إنها الجريمة التي لا تغتفر في ضمير الأمم الحية.

لكن دعونا ننتقل إلى الجانب الأخر من الكرة الأرضية وإلى منطقة الشرق الأوسط، وإلى العراق تحديداً، حيث يتحول الفساد من “خطأ فردي” إلى نظام حكم ممنهج وبقوانين نافذة ابتدعواها لغرض تسهيل سرقاتهم ! كم من مسؤول عراقي بعد 2003 سرق المليارات من خزينة الشعب الجائع، ولم يُحاكم؟ كم من وزير ونائب وقائد حزب بنى قصوراً في لندن ودبي وباريس، بينما يصرخ في وجه المواطن العراقي الذي يموت جوعاً أو يُقتل في تفجير؟ هؤلاء الأشخاص الذين كانوا قبل 2003 يعيشون على مخصصات الرعاية الاجتماعية في دول اللجوء الغربية – نعم، تلك الرواتب البائسة التي تُعطى لـ”المرضى النفسيين” حسب تقاريرهم الطبية المزورة! فجأة، وبقدرة قادر، تحول هؤلاء “المعذبون” إلى أمراء المليارات، يملكون يختات وطائرات خاصة، ويتباهون بثرواتهم أمام شعب يغرق في الفقر والفوضى.تخيلوا التناقض اللاذع: في فرنسا، يُسجن ساركوزي لأخذ ملايين من قذافي – ملايين فقط! – بينما في العراق، يسرق السياسيون من دون أي خجل ولا حياء ولا رادع ولا عادلة من عائدات النفط ومن الأمانات الضريبية ، ويبنون إمبراطوريات مالية، ولا يزالون يتجولون أحراراً، يخطبون في البرلمان أو يديرون الأحزاب كأنهم أبطال ثورة! ساركوزي دخل السجن في أول يوم، ورأى الجدران الباردة تذكره بأخطائه. أما في عراقنا الذي هوادم حكم الأحزاب والطوائف ، فما يزال اساطين الفاسدون يرون الجدران الذهبية لقصورهم، ويضحكون على شعب ينتظر عدالة تُرى قريبة وتبدو بعيدة.، حيث ما تزال تُرتكب الجرائم ولا تُحاسب، بل على العكس تُتَوَّج أصحابها بمزيد من المناصب والهبات والامتيازات . قبل عام 2003، كان العديد من هؤلاء الذين يتصدرون المشهد السياسي اليوم، يعيشون على صدقات دول اللجوء. كانوا يقدمون تقارير طبية مزورة عن أمراض نفسية ليستحقوا راتب الرعاية الاجتماعية من بلديات تلك الدول. كانوا وجوهاً بائسة في طوابير المساعدات، يتوسلون لقمة عيشهم. وفجأة، وبقدرة “قادر” اسمه الفوضى الخلاقة والطائفية ونهب المال العام، تحول هؤلاء المرضى “النفسيون” إلى قادة أحزاب ووزراء ونواب ومسؤولين بمناصب مهمة بالدولة . تحولت معها صدقات فتات البلديات إلى مليارات من الدولارات. تحولت شقق الإعانة الاجتماعية إلى قصور فاخرة في نفس البلدان التي كانت ترزقهم من فضلات موائدها. لقد نفخوا كبالونات من أموال الشعب العراقي الجائع، الذي يئن تحت وطأة الفقر والبطالة وانقطاع الكهرباء والماء والأدهى موتهم المجاني العبثي على أسرة المستشفيات التي لم توفر لهم ابسط أنواع الأدوية لبقائهم على قيد الحياة ، بينما هم ينعمون بثروات تسيل لعاب ملوك وأباطرة. فهذه العبثية هنا تصل إلى ذروتها. ساركوزي يحاكم ويُسجن لأنه قبل تمويلاً غير قانوني لحملته يقدر بمليوني يورو. بينما في العراق، تُسرق مليارات الدولارات من أموال النفط والموازنات في صفقات وهمية وعمولات ورواتب وهمية ومشاريع فاشلة. تُسرق أموال دواء المرضى وطعام الأطفال ورواتب المعلمين، ولا تسمع إلا صدى الصمت من مؤسسات الدولة التي احتلها هؤلاء اللصوص.

فمتى يرى العراقيون هؤلاء “الأساطين” خلف القضبان؟ متى تسمع ساحات القضاء صوت احتكاك أقدامهم وهم يساقون إلى محاكمات عادلة، ليس كمسرحيات هزيلة، بل كمحاكمات تاريخية تكشف فضائحهم وتسترجع بعضاً من كرامة هذا الشعب المنهك؟ واليوم الذي يرى فيه الفاسدون في العراق مصيرهم المحتوم خلف القضبان، هو اليوم الذي ستبدأ فيه ولادة العراق الجديد. إنه اليوم الذي سيتحول فيه اليأس إلى أمل، والاحتقان إلى ثقة. إنه اليوم الذي سيعلم فيه كل مسؤول أن يده التي تمتد إلى المال العام، ستنتهي لا محالة مغلولة بالحديد.

ولكن السؤال الصارخ: هل سنرى يوماً هؤلاء الأساطين خلف القضبان؟ هل سنشهد وزراء ونواباً وقادة أحزاب – الذين كانوا بالأمس يتسولون الرعاية الاجتماعية في أوروبا، مدعين أمراضاً نفسية ليحصلوا على بضع مئات من اليورو – يدخلون سجوناً عراقية حقيقية، لا فنادق خمس نجوم كما يحدث أحياناً؟ الفرحة قادمة لا محالة، يا عراقيين! ذلك اليوم الذي يتحول فيه الفساد من عادة إلى جريمة مُعاقب عليها، حيث يُجبر السارق على إعادة المليارات، ويُسجن في زنزانة تذكره بأيام الرعاية الاجتماعية البائسة.في فرنسا، أثبتت العدالة أن المنصب ليس درعاً ضد المحاسبة. في العراق، حان الوقت لنفس الدرس: استغلال السلطة للإثراء غير المشروع جريمة، سواء أكانت ملايين من قذافي أو مليارات من نفط الشعب. اللهم أمن، اجعل ذلك اليوم قريباً، حيث يرى الشعب فاسديه خلف القضبان، يدفعون الثمن، ويستعيد العراق كرامته المسروقة! فالعدالة ليست رفاهية، بل ضرورة لشعب جائع أكثر من وعود كاذبة.

يا للعجب من حكومة تُجلد شعبها المغلوب على أمره بقرار وزاري إبليسي يُلزم المواطن المسحوق بتقديم فواتير دفع جباية الماء والكهرباء والهاتف والمجاري قبل أن يُسمح له بترويج أبسط معاملة في دوائر الدولة!
أين هي هذه الخدمات أصلاً؟

  • ماء؟ يشرب العراقيون من أنابيب صدئة تُخرج طيناً أسود يُسمى “ماء”!
  • كهرباء؟ تُضيء لساعة ثم تُطفئ لأسبوع، وتُفجر المولدات في وجوه الأطفال!
  • هاتف؟ إشارة تختفي كأنها شبح في صحراء الوزارات!
  • مجاري؟ شوارع بغداد تسبح في برك الجيفة، وتُغرق الأحياء كأنها البندقية… لكن برائحة الموت لا الورد!

فهل أفلست خزينة الدولة فعلاً؟ أم أنها أُفرغت في قصور لندن ودبي، في يخوت الوزراء، في حسابات سويسرية تُدار بأسماء كلابهم الأليفة؟
تُسارع الحكومة الآن لتُفرض إتاوات على المعدمين، تُمص دماء الفقراء لتُعيد ملء خزينة سرقتها هي نفسها!
جلد للمواطن، ومكياج للفاسدين!
هذه ليست جباية… هذه سخرية مرضية من شعب يموت جوعاً، ويُطلب منه أن يدفع ثمن وهم الخدمات التي لم يرها إلا في إعلانات الانتخابات الكاذبة!

إنه يوم لا بد آت، فسنن العدالة الإلهية والبشرية لا تحابي أحداً. قد يتأخر الحق، لكنه لا يغلب عليه . وعدالة الأرض، عاجلاً أم آجلاً، ستلتقي بعدالة السماء. وأن اخر دعاءنا اللهم إننا نسألك بعظمتك وجلال قدرك أن نرى ذلك اليوم بعيوننا، لا بأحلامنا. اللهم آمين.