رياض سعد
الحياة — تلك اللحظة القصيرة الممنوحة لنا من رحم العدم — ليست إلا رخصة مؤقتة صادرة عن الموت نفسه، إذ يسمح لنا بأن نتنفس قليلاً قبل أن نعود إليه، إلى السكون الأبدي الذي انطلقنا منه أول مرة… ؛ فهي إذن، ليست نقيض الموت، بل وجهه الآخر، ظله المتحرك في الضوء، وهمه الجميل في زمن محدود ... .
من هذا المنظور، يصبح الوجود تجربة مؤقتة لا تملك الديمومة، بل تتغذّى على هشاشتها وسرعتها الفائقة … ؛ نحن لا نحيا لأننا خُلقنا للحياة، بل لأن الموت، في سعة صمته، أعارنا لحظة من كيانه لنتذوق طعم المعنى… ؛ وكأن الوجود كله محاولة لفهم ما لا يُفهم، أو نداء خافت ينبعث من العدم يسأل نفسه عن جدوى النطق بعد طول صمت.
في البعد النفسي، يحمل هذا الفهم للحياة طابعاً مزدوجاً: فهو يمنح الإنسان وعياً حاداً بفناء كل شيء، لكنه في الوقت نفسه يحرره من التعلق الزائف بالدوام والتملك والملك الزائل … ؛ حين يدرك المرء أن كل لحظة هي إعارة من الموت، تتبدّل علاقته بالوجود ؛ يصبح أكثر حضوراً، أكثر صدقاً، وأكثر انفتاحاً على الجمال الكامن في الزوال... ؛ فالحياة، بهذا الفهم، ليست انتظاراً للنهاية، بل مصالحة معها… ؛ وكل فعل إنساني — من الحب إلى الإبداع، ومن الحزن إلى الأمل — ليس سوى محاولة لتجميل الطريق نحو الفناء.
أما الموت، فليس خصماً للحياة كما توهمنا الحكايات الأولى، بل هو الراوي الصامت الذي يضبط إيقاعها… ؛ هو النهاية التي تمنح البدايات معناها، والمشهد الأخير الذي يجعل المسرحية تستحق المشاهدة… ؛ فلو كانت الحياة بلا موت، لكانت بلا طعم، بلا مغزى، مجرد استمرارية عمياء لا تعرف القيمة .
هكذا، يصبح الموت معلّماً للحياة، وتتحول الحياة إلى درس مؤقت في كيفية الوجود… ؛ نحن عابرو سبيل في طريق بين عدمين، نحمل وعياً مؤقتاً ونُطفئه حين يحين الموعد، تاركين خلفنا آثاراً صغيرة تذكّر الآخرين أن الموت لا يقتل المعنى، بل يخلقه.
الخاتمة: النفس بين الأبدية والعدم
إن النفس الإنسانية — وهي تتأمل هذا التبادل العجيب بين الفناء والوجود — تدرك أن الخلود ليس في البقاء، بل في الوعي بما يزول… ؛ إن ما يمنح حياتنا عمقها ليس امتدادها في الزمن، بل شدّة حضورها في اللحظة... ؛ فكل لحظة نعيشها بامتلاء هي انبعاث صغير من الأبد، وكل غفلة عن جوهرها موت مؤقت يسبق الفناء الكبير.
الموت لا يهدد النفس، بل يدعوها إلى أن تكون أكثر صدقاً، أكثر شفافية، وأكثر حباً لما هو زائل... ؛ وما دام الموت نهاية الحياة، فإن الحياة — في جوهرها — هي بداية الموت، والاثنان وجهان لحقيقة واحدة: أننا كائنات من زمنٍ ضيّقٍ تسعى لفهم الأبد.