العمالة والجالية السورية في العراق… من الإيواء الإنساني إلى التهديد الأمني والاجتماعي والسياسي  وردود الفعل المزدوجة ..!!

رياض سعد

*تمهيد

منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، احتضن العراق مئات الآلاف من السوريين الهاربين من الحرب والنزوح، وفتح لهم أبوابه بدافعٍ إنساني وأخلاقي ، فشاركهم لقمة العيش وفرص العمل، ومدّ لهم يد المساعدة في أحلك الظروف… ؛ و لكن ما كان في بداياته موقفاً إنسانياً مشرفاً، بدأ اليوم يتحوّل إلى أزمةٍ أمنية واجتماعية واقتصادية متفاقمة، بعدما تسللت بين صفوف هذه الجالية عناصر ارهابية و خارجة عن القانون، تمارس أنشطة إجرامية وإرهابية وتجسسية تهدد الأمن الوطني العراقي بصورة مباشرة... ؛ نعم هذه الضيافة، التي بدأت من منطلق إنساني، تحوّلت بمرور الوقت إلى عبءٍ ثقيلٍ على الأمن والمجتمع والاقتصاد العراقي، بعد أن تسللت بين صفوف تلك الجالية عناصر متورطة في الجريمة المنظمة والإرهاب والتجسس، تعمل بغطاءٍ مدني أو تحت شعارات العمل والكسب الحلال .

* ملفّ أمني مفتوح على احتمالات خطيرة

لقد كشفت الأجهزة الأمنية العراقية، في أكثر من مناسبة، عن شبكات تجسس تعمل لصالح دولٍ معادية، وضبطت خلايا إرهابية نائمة تابعة لتنظيمات متطرفة، فضلا عن مئات الجرائم الجنائية ؛ كان من بين أفرادها أشخاص يحملون الجنسية السورية… ,  ورغم أن هذه الحالات لا يمكن تعميمها على جميع السوريين المقيمين في العراق، فإنها تفتح الباب واسعاً أمام سؤال مشروع : هل ما زال العراق قادراً على ضبط ملف العمالة واللاجئين الأجانب بما يضمن أمنه واستقراره الداخلي؟

وهذه الأخبار أطلقت موجة قلقٍ واسعًا في أوساطٍ شعبية وسياسية، وأثارت مطالباتٍ بتشديد الإجراءات تجاه العمالة الأجنبية و الجاليات الغريبة ؛ بل وطرد كافة الاجانب والغرباء لاسيما وان ذاكرة العراقيين مليئة بالقصص المؤلمة التي اقترنت بالجاليات والعمالة العربية والاجنبية  .

نعم , لم يعد الحديث عن خطر العمالة السورية مجرد تخمين أو تكهن شعبي… ؛  فقد كشفت الأجهزة الأمنية العراقية، في أكثر من محافظة، عن شبكات تجسّس وعمليات إرهابية تضم بين عناصرها أشخاصاً يحملون الجنسية السورية، بعضهم مرتبط بتنظيماتٍ متطرفة وأخرى تتعاون مع أجهزة استخباراتٍ خارجية… ؛  هذه الوقائع المؤكدة لم تعد استثناءات، بل مؤشراتٍ إلى اختراقٍ أمني منظم يستغل هشاشة الحدود وانفتاح سوق العمل العراقي.

ويشير مسؤولون أمنيون إلى أن بعض هذه الشبكات تنشط في مجالاتٍ متعددة: تهريب الأموال، وتجارة المخدرات، والاتجار بالبشر، وتوفير المعلومات عن تحركات القطعات الأمنية والحشد الشعبي لصالح تنظيماتٍ إرهابية… ؛  إنها جرائم معقدة تمسّ الأمن الوطني العراقي في الصميم، وتفرض على الدولة أن تعيد النظر في كل ملفات الإقامة والعمل، وتفعّل أدوات الرقابة الأمنية والاستخبارية بأقصى درجات الحزم.

ناهيك عن الاستغلال من قبل التنظيمات الإرهابية … ؛ اذ تمثل الجماعات الإرهابية بيئة خصبة لاستقطاب بعض السوريين، مستغلة أوضاعهم الاقتصادية والصعوبات التي يعانونها، حيث تشير تقارير أمنية إلى محاولات تنظيم “داعش” تجنيد عناصر سورية لتنفيذ عمليات في العراق.

* عبء اقتصادي واجتماعي لا يمكن تجاهله

الواقع يشير إلى أن الأعداد الكبيرة من العمالة والجالية السورية — التي تجاوزت نصف مليون شخص — تمثل عبئاً اقتصادياً واضحاً على سوق العمل المحلية… ؛  فهؤلاء يشاركون العراقيين في فرص العمل ، فيما تُحوَّل ملايين الدولارات سنوياً إلى خارج البلاد، تُستنزف من خيرات العراق، في وقتٍ ما زال فيه الشباب العراقي يواجه البطالة والفقر وغياب الفرص… ؛  نعم , إن التكدّس الكبير للعمالة الأجنبية خلق منافسة حادة في سوق العمل المحلي، ما أدى إلى انكماش فرص الشباب العراقيين، وارتفاع معدلات البطالة، وتسرب العملة الصعبة إلى خارج البلاد عبر تحويلات مالية ضخمة تُرسل شهرياً إلى الداخل السوري... ؛ حيث يقدر عدد العراقيين الباحثين عن عمل بما لا يقل عن 1.6 مليون عراقي … ؛  كما أن تحويلات العمال الأجانب إلى خارج العراق تشكل عبئاً على الاقتصاد، حيث يتم تحويل حوالي أكثر من ملياري دولار سنوياً خارج البلاد وفقاً لمستشار رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية .

* الانتشار السوري في العراق: بين الحاجة والريبة

وتُشير تقديرات مفوَّضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن العراق يستضيف مئات الآلاف من اللاجئين والنازحين المسجلين، وغالبيتهم من السوريين، يعيش الكثيرون منهم في الإقليم الكردي ومناطقٍ حضرية أخرى… , وغالبًا في ظروف اقتصادية واجتماعية هشة… ؛ وقد أكد وزير العمل العراقي أحمد الأسدي أن معظم العمالة السورية دخلت العراق بطرق غير رسمية أو عبر إقليم كردستان … ؛  وتشير التقارير إلى أن العدد المسجل رسمياً عبر القنوات القنصلية لا يتجاوز 20 ألف شخص، بينهم ما يقارب 7 آلاف حصلوا على الإقامة القانونية داخل العراق … ؛  وجود هذه الأعداد الكبيرة يخلق ضغوطًا على سوق العمل والخدمات المحلية ويغذّي مشاعر منافسة على الموارد لدى بعض الفئات المحلية، وهو أرض خصبة للشائعات والاتهامات العامة إذا لم تُدار مسألة الوجود الأجنبي بسياسات واضحة ومنصفة وصارمة .

لقد تحولت بعض الأحياء والمناطق إلى ما يشبه “جزرًا مغلقة” للعمالة والجالية السورية والمصرية والباكستانية والافغانية والبنغلاديشية والايرانية وغيرها ، خارج رقابة الدولة، ما جعلها بيئة مثالية لتغلغل الجريمة وتبادل المعلومات بين عناصر مشبوهة… ؛  والأسوأ من ذلك أن هناك جهات داخلية وخارجية تستثمر هذا الوجود البشري الكبير لتمرير أجنداتها الأمنية والاستخبارية تحت ستار العمل واللجوء الإنساني والسياحة الدينية .

لقد أصبحت بعض الأحياء في بغداد والجنوب ومناطق أخرى مسرحاً لأنشطة مشبوهة، بدءاً من تجارة المخدرات إلى أعمال النصب والتزوير، وصولاً إلى شبكات تجسس وتجنيد لصالح جهات خارجية لاسيما الكيان الصهيوني .

*التوتر القضائي والسياسي: حين تتحول المحاكمة إلى أزمة دبلوماسية

ومع تزايد الضبط الأمني، بدأت المحاكم العراقية تصدر أحكاماً بالإعدام والسجن المؤبد بحق عدد من السوريين المتورطين في قضايا إرهابية وجنائية خطيرة… ؛  تلك الأحكام، رغم استنادها إلى أدلة قاطعة وإجراءات قانونية عراقية صحيحة، لم تمرّ بهدوء على الجانب السوري — لا على المستوى الشعبي ولا الرسمي.

* الموقف الرسمي السوري

فقد صدرت عن بعض الأوساط السورية الحكومية والإعلامية تصريحاتٌ متحفظة أو مشككة بعدالة القضاء العراقي، وظهرت حملات على مواقع التواصل تتهم السلطات العراقية بالتشدد أو باستهداف السوريين جماعياً…, بل وتتوعد العراقيين بالقتل والذبح والتفجير ؛  كما تحركت منظمات سورية وأفراد محسوبون على النظام والمعارضة على حد سواء، لتوظيف تلك القضايا سياسياً، وكأن محاكمة الإرهابيين السوريين في العراق “إساءة للشعب السوري”، لا تطبيقٌ لعدالة دولة ذات سيادة.

وقد صدرت احتجاجات دبلوماسية من الحكومة السورية ؛ اذ قدمت الحكومة السورية احتجاجات رسمية إلى الجانب العراقي عبر القنوات الدبلوماسية ولأكثر من مرة ، تطالب فيها بإعادة النظر في الأحكام الصادرة بحق مواطنيها.

* ردود الفعل الشعبية السورية

بينما شهدت الاوساط الشعبية في سوريا استنكار واسع: اذ تشهد مناطق سورية مختلفة استنكاراً شعبياً للأحكام القانونية الصادرة بحق السوريين في العراق، خاصة أحكام الإعدام والسجن ... ؛ وعمت الاحتجاجات والمظاهرات سوريا … ؛ وقام البعض بأنشطة و فعاليات احتجاجية أمام السفارة العراقية في دمشق … ؛  رفعت فيها شعارات تطالب بإلغاء هذه الأحكام القضائية ... ؛ فضلا عن استمرار الخطاب الطائفي وارتفاع وتيرته وتصاعدها ؛ اذ يروج بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي لخطاب طائفي يصور الأحكام على أنها ذات خلفية طائفية، رغم التأكيدات الرسمية العراقية بأنها قضائية بحتة.

ردود الفعل تلك أزعجت الرأي العام العراقي، الذي رأى فيها محاولة للتنصل من المسؤولية الأخلاقية والسياسية، وتدخلاً غير مبرر في القضاء العراقي المستقل… ؛ فالمجرم الذي تلطخت يداه بدماء العراقيين لا يمكن أن يحظى بشفقة سياسية أو قومية، ولا أن تُعاد صياغة جرائمه في إطار المظلومية أو الاضطهاد… ؛ لان العدالة العراقية لا تفرّق بين جنسية وأخرى، بل بين المجرم والبريء.

*ازدواجية الموقف السوري: بين الخطاب الإنساني والتبرير الضمني

المفارقة المؤلمة أن بعض الجهات السورية الرسمية تدعو المجتمع الدولي إلى احترام سيادتها في ملاحقة الإرهابيين داخل أراضيها بل وخارجها ، لكنها تعترض حين يمارس العراق الحق ذاته في حماية أمنه ومواطنيه… ؛  إنها ازدواجية سياسية صارخة تكشف أن دمشق — الرسمية أو غير الرسمية — تنظر إلى وجود رعاياها في العراق من زاوية مصلحية وطائفية ، لا من منطلق التعاون أو المسؤولية المشتركة... ؛ وفي المقابل، يستغل بعض السوريين المقيمين في العراق هذه الأجواء السياسية المشحونة لتأجيج العواطف وابتزاز الدولة العراقية إنسانياً، وكأن الإيواء أصبح “استحقاقاً دائماً” وليس موقفاً أخلاقياً مؤقتاً… ؛  وهكذا تتحول المأساة الإنسانية إلى أداة ضغطٍ سياسي وإعلامي، على حساب الأمن العراقي ودماء ضحاياه.

*الحلول والمعالجات

هذه الوقائع، التي أكدت بعض التحقيقات الأمنية صحتها، تستدعي مراجعة عاجلة وشاملة لسياسات الدولة تجاه الجاليات الأجنبية المقيمة في البلاد.

إن الخطر لا يكمن في السوريين كمجموعة بشرية، بل في ترك الملف دون ضوابط قانونية وأمنية صارمة… ؛  فالدولة التي تتساهل في تنظيم سوق العمل الأجنبي، أو في تدقيق هويات الداخلين والمقيمين، إنما تفتح ثغراتٍ خطيرة في جدارها الأمني والاجتماعي.

العراق اليوم بحاجة إلى وقفة حازمة تُعيد التوازن بين البعد الإنساني والضرورات السيادية… ؛ اذ لا يمكن أن يستمر البلد في استقبال العمالة الأجنبية في وقتٍ يعاني فيه شبابه من البطالة، ولا يمكن التغاضي عن تسلل بعض العناصر المأجورة بين صفوف اللاجئين دون محاسبة حقيقية.

المطلوب الآن ليس خطاب كراهية، بل سياسة وطنية صارمة: جرد شامل للعمالة الأجنبية، تدقيق أمني دقيق للسير الذاتية، ترحيل الفئات المشبوهة فوراً، وتفعيل الرقابة على التحويلات المالية. فالأمن القومي لا يُحمى بالعواطف، بل بالوعي والسيادة والعدالة.

لقد آن الأوان للعراق أن يراجع معايير الضيافة والهشاشة معاً، فالمسألة لم تعد إنسانية خالصة، بل تحولت إلى قضية أمنية تمسّ سلامة الدولة والمجتمع… ؛  ومن لا يحترم أرض العراق وأمانه، لا يستحق أن يعيش بين أبنائه.

*الحل: دولة القانون أولاً

ما يحتاجه العراق اليوم هو إستراتيجية وطنية شاملة لإدارة ملف العمالة واللاجئين، تقوم على اربع ركائز رئيسية:

*العدالة الحازمة: تطبيق القانون على كل متورط دون تمييز أو استثناء، وإعلان نتائج التحقيقات للرأي العام بشفافية , وعدم السماح للأطراف الخارجية بالتدخل او التأثير على القضاء .

*الرقابة الأمنية الذكية: إعادة التدقيق في ملفات الإقامة، ومنع أي نشاطٍ خارج نطاق القانون، وتشديد الرقابة على التحويلات والأموال المشبوهة.

*إعادة التوازن الإنساني والاقتصادي: إنهاء فوضى العمالة الأجنبية، وتقديم الأولوية للمواطن العراقي في سوق العمل، مع احترام القيم الإنسانية التي تأسس عليها الموقف العراقي تجاه اللاجئين.

*اخراج كافة الجاليات الاجنبية والعربية من العراق ؛ بسبب اوضاع العراق الداخلية المعقدة .

*الخاتمة

إن العراق، الذي عانى لعقود من الإرهاب، لا يمكنه أن يغامر بأمنه مرة أخرى تحت لافتة “الإنسانية او العمل والاستثمارات او الساحة الدينية ” حين تتحول الضيافة إلى ثغرةٍ أمنية… ؛  فالقانون يجب أن يكون سيد الموقف، والعدالة العراقية خطاً أحمر لا يحق لأي دولة أو جالية أن تتجاوزه أو تشكك فيه... ؛ ومن أراد العيش  او العمل في العراق بسلام، فعليه أن يحترم قانونه وثقافة ومعتقدات شعبه ، لأن هذا الوطن لم يعد يحتمل خياناتٍ جديدة تُرتكب تحت عباءة اللجوء والعمل والقومية والطائفية .