التعليم الأهلي ( إنقاذ أم إغراق) قراءة في أزمة التعليم العراقي

بقلم: الأستاذ حسين شكران الأكوش العقيلي – كاتب ومؤلف، ماجستير

في كل أمة حيّة، يظل التعليم هو البوصلة التي تحدد اتجاه المستقبل، وهو المرآة التي تعكس مستوى الوعي الجمعي وقدرة المجتمع على النهوض. غير أن التعليم في العراق اليوم يقف عند منعطف خطير، حيث تتقاطع فيه الأزمات البنيوية مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، لتنتج مشهداً مرتبكاً تتصدره المدارس الأهلية بوصفها ظاهرة آخذة في الاتساع. هذه المدارس التي وُلدت في الأصل كخيار رديف، تحولت مع مرور الوقت إلى لاعب رئيسي في المشهد التعليمي، لكنها في الوقت ذاته أثارت جدلاً واسعاً حول دورها الحقيقي: هل هي وسيلة إنقاذ لواقع متعثر، أم أنها باب آخر لإغراق المجتمع في أزمات جديدة؟
لقد نشأت المدارس الأهلية في بيئة مثقلة بالضعف المؤسسي الذي أصاب المدارس الحكومية، من نقص الأبنية وتكدس الصفوف، إلى المناهج المتهالكة وضعف الكادر التدريسي. هذا الواقع دفع كثيراً من الأسر إلى البحث عن بدائل تضمن لأبنائهم تعليماً أفضل، ولو كان ذلك على حساب ميزانياتهم المثقلة أصلاً. وهنا برز التعليم الأهلي كخيار يَعِدُ بمستوى أعلى من الانضباط والاهتمام الفردي، لكنه في المقابل فتح الباب واسعاً أمام منطق السوق، حيث صار العلم يُقاس بالأقساط الشهرية، لا بالرسالة التربوية.
إن خطورة الظاهرة لا تكمن فقط في ارتفاع كلفة التعليم الأهلي، بل في ما تخلقه من فجوة اجتماعية متنامية بين من يستطيع دفع الثمن ومن يُترك لمصيره في مدارس حكومية تعاني الإهمال. وهكذا يتحول التعليم من حق عام إلى امتياز طبقي، ومن رسالة وطنية إلى سلعة تجارية. هذه الفجوة لا تهدد فقط مبدأ العدالة الاجتماعية، بل تنذر أيضاً بخلق أجيال متفاوتة في فرصها، متباينة في أدواتها، مما يعمّق الانقسام داخل المجتمع.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض المدارس الأهلية قدّمت نماذج ناجحة في الإدارة والانضباط وتطوير المناهج، بل وأسهمت في سد فراغات تركتها المؤسسات الرسمية. غير أن هذه النجاحات تبقى محدودة الأثر إذا لم تُدمج ضمن رؤية وطنية شاملة لإصلاح التعليم، رؤية تجعل من التعليم الأهلي مكمّلاً لا بديلاً، ومنظومة داعمة لا منافسة غير متكافئة. فالتعليم ليس ميداناً للربح وحده، بل هو مشروع وطني يرتبط بمستقبل الدولة وهويتها.
إن أزمة التعليم في العراق اليوم ليست أزمة مدارس أهلية أو حكومية فحسب، بل هي أزمة فلسفة تربوية غابت عنها الرؤية الإصلاحية. فحين يغيب التخطيط الاستراتيجي، ويتراجع الاستثمار في الإنسان، يصبح التعليم ساحة مفتوحة للتجريب والارتجال. وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل نريد جيلاً متعلماً بحق، قادراً على التفكير النقدي والإبداع، أم نكتفي بمخرجات شكلية تُساق إلى سوق العمل بلا أدوات حقيقية؟

إن إنقاذ التعليم العراقي يتطلب إعادة الاعتبار للمدرسة الحكومية بوصفها العمود الفقري للنظام التعليمي، مع ضبط إيقاع التعليم الأهلي ضمن معايير وطنية صارمة توازن بين الجودة والعدالة. فالتعليم ليس مجرد خدمة تُباع وتشترى، بل هو عقد اجتماعي يربط الدولة بمواطنيها، ويحدد ملامح المستقبل الذي نصبو إليه.

وبين الإنقاذ والإغراق، يبقى التعليم الأهلي مرآة تعكس أزمتنا الأعمق: أزمة إدارة ووعي وإرادة. فإذا أردنا أن نخرج من هذا المأزق، فعلينا أن نعيد صياغة علاقتنا بالتعليم، لا كوسيلة للترقي الفردي فحسب، بل كرسالة جماعية تحمل في طياتها مشروع وطن بأكمله.