الحكومة الإسلامية والوضعية (جدلية الشرعية بين النص والعقل)

بقلم: الأستاذ حسين شكران الأكوش العقيلي – كاتب ومؤلف، ماجستير فقه مقارن وقانون عام إسلامي

منذ أن بدأ الإنسان يفكر في تنظيم حياته الجماعية، ظل سؤال الشرعية هو المحرك الأساس لكل تجربة سياسية. الشرعية ليست مجرد إطار قانوني أو ديني، بل هي روح الحكم التي تمنح السلطة معناها وتحدد علاقتها بالمجتمع. وإذا كانت الحكومة الإسلامية قد تأسست على النص الشرعي بوصفه مرجعية إلهية، فإن الحكومة الوضعية انطلقت من العقل البشري باعتباره أداة للتشريع وضمان مصالح الناس. هذه الثنائية بين النص والعقل ليست مجرد اختلاف في المنهج، بل هي جدلية عميقة تعكس صراعًا بين الهوية الدينية والحداثة القانونية، وبين الثابت والمتغير في مسيرة التاريخ.
إن الحكومة الإسلامية تنظر إلى السلطة باعتبارها أمانة، تستمد مشروعيتها من الوحي، وتُمارس وفق قيم العدل والشورى والالتزام بالأحكام الشرعية. فهي لا ترى الحكم غاية في ذاته، بل وسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة وحماية المجتمع من الانحراف. في المقابل، الحكومة الوضعية تنطلق من فكرة العقد الاجتماعي، حيث يتفق الأفراد على صياغة قوانين تنظم حياتهم وفق ما يراه العقل البشري مناسبًا للزمان والمكان. الشرعية هنا ليست مستمدة من نص مقدس، بل من الإرادة الجمعية التي تمنح القانون قوته وتحدد حدود السلطة.
وإذا تأملنا في التجربتين، نجد أن الحكومة الإسلامية تحمل طابعًا رساليًا يتجاوز حدود الزمان والمكان، فهي تسعى إلى إقامة العدل بوصفه قيمة مطلقة، بينما الحكومة الوضعية تركز على تحقيق الاستقرار وضمان الحقوق وفق ما تقتضيه الظروف الاجتماعية والسياسية. هذا الاختلاف يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة: هل يمكن الجمع بين النص والعقل في صياغة نموذج حكم متوازن؟
وهل الشرعية الدينية قادرة على التكيف مع متغيرات العصر دون أن تفقد جوهرها؟
أم أن الشرعية الوضعية، رغم مرونتها، تظل معرضة للانحراف حين تغيب عنها القيم الأخلاقية؟
إن المقارنة بين النموذجين تكشف عن نقاط التلاقي والافتراق. فكلاهما يسعى إلى تنظيم المجتمع وضبط السلطة، لكنهما يختلفان في المرجعية والمنطلقات. الحكومة الإسلامية ترى أن النص هو الضامن لعدم انحراف الحكم، بينما الحكومة الوضعية ترى أن العقل والتجربة هما الطريق الأمثل لتطوير القوانين. ومع ذلك، فإن الواقع المعاصر يفرض تحديات جديدة تجعل من الحوار بين النص والعقل ضرورة لا غنى عنها. فالمجتمعات اليوم لم تعد قادرة على الاكتفاء بنموذج واحد، بل تحتاج إلى توازن يضمن القيم الروحية ويستجيب لمتطلبات الحياة الحديثة.
إن الشرعية، سواء كانت دينية أو وضعية، لا يمكن أن تبقى مجرد فكرة نظرية، بل يجب أن تتحول إلى ممارسة واقعية تعكس احترام الإنسان وحقوقه وكرامته. فالحكم الذي يفقد صلته بالعدالة، سواء استند إلى النص أو العقل، يتحول إلى سلطة جائرة تفقد مشروعيتها. ومن هنا، فإن التحدي الأكبر أمام الفكر السياسي المعاصر هو القدرة على صياغة نموذج حكم يجمع بين قوة النص ومرونة العقل، بين الثابت والمتغير، وبين الهوية والانفتاح.
وفي النهاية، تبقى جدلية الشرعية بين النص والعقل مفتوحة على احتمالات متعددة، فهي ليست صراعًا صفريًا، بل حوارًا مستمرًا يعكس حاجة الإنسان إلى التوازن بين قيم السماء ومتطلبات الأرض. إن الحكومة الإسلامية والوضعية، رغم اختلافهما، يمكن أن تشكلا معًا إطارًا لفهم أعمق لمعنى الحكم والسلطة، إذا ما أُعيد النظر فيهما بروح نقدية تجمع بين الأصالة والتجديد.