غنى شريف
ثمة مهزلة حقيقية تُكتب اليوم في المشهد اللبناني تحت عنوان “السيادة”، ولكنها في جوهرها ليست سوى تبعية فاقعة لرجلٍ فقد بريقه حتى في بلاده: دونالد ترامب. هؤلاء الذين يرفعون راية الاستقلال الوطني يهرولون وراء رئيس أميركي مرفوض في واشنطن، متّهم بالنرجسية، وملاحَق قضائياً، ومطرود من قلوب الأميركيين قبل مؤسساتهم. أيّ سيادةٍ هذه التي تُبنى على أكتاف زعيمٍ ساقط؟
ما يسمّون أنفسهم “سياديين” في لبنان، يبدون اليوم كنسخةٍ باهتة من ترامب نفسه: ضجيج بلا مضمون، شعارات فارغة، ونرجسية سياسية فادحة. يظنّون أنّ الولاء الأعمى لسياسات ترامب هو موقفٌ وطني، في حين أنّه ليس سوى استمرارٍ لنهج التبعية، ولكن بلونٍ أميركي هذه المرة. فهم يهاجمون التبعية لمحاور الشرق، ثمّ يسجدون أمام صنمٍ من واشنطن لا مكان له في مستقبل السياسة الأميركية!
ترامب الذي يعتبرونه “رمزاً للصلابة” صار اليوم عنواناً للفشل السياسي والأخلاقي في بلاده. الحزب الجمهوري نفسه يتبرّأ من ممارساته، والمؤسسات الأميركية تُعيد تصحيح المسار الذي شوّهه. فكيف للبناني “سيادي” أن يسعى لإرضاء رجلٍ لفظه شعبه؟ كيف لمن يدّعي الدفاع عن حرية وطنه أن يرهن موقفه لمن صار عبئاً على بلده؟
والأدهى من ذلك، أنّ بعض الأنظمة العربية تبنّت نهج ترامب العدائي نفسه، حتى بعد أن لفظه الأميركيون. وكأنهم يتنافسون على تمثيل دور “ترامب العربي”، غافلين عن أن العالم تغيّر، وأن الوعي الشعبي — في أميركا كما في المنطقة — لم يعد يبتلع لغة الكراهية والابتزاز التي روّجها ترامب.
لبنان اليوم لا يحتاج إلى سياديين يتّخذون من واشنطن قبلةً جديدة. يحتاج إلى وطنيين أحرار يفهمون أن السيادة تُبنى بالعقل لا بالعقيدة، وبالمصلحة الوطنية لا بالولاء للأجنبي، سواء كان في طهران أو في البيت الأبيض.
أما أولئك الذين يرون في ترامب منقذاً، فليستعدّوا لخيبةٍ إضافية: فزعيمهم المفضّل لم يعد يُسمع صوته إلا في مهرجانات الغضب واليأس. لبنان يستحقّ أكثر من هذه الكوميديا السياسية الرديئة.