د. فاضل حسن شريف
عن تفسير الميزان للعلامة السيد الطباطبائي: قوله تعالى “عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ” (المائدة 95)، إلى آخر الآية تعلق العفو بما سلف قرينة على أن المراد بما سلف هو ما تحقق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الآية فإن تعلق العفو بما يتحقق حين نزول الآية أو بعده يناقض جعل الحكم وهو ظاهر، فالجملة لدفع توهم شمول حكم الكفارة للحوادث السابقة على زمان النزول. والآية من الدليل على جواز تعلق العفو بما ليس بمعصية من الأفعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهي المولوي لاشتمالها على المفسدة، وأما قوله “وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ” (المائدة 95) فظاهر العود تكرر الفعل، وهذا التكرر ليس تكرر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى: ومن عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لأنه حينئذ ينطبق على الفعل الذي يتعلق به الحكم في قوله “وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ” (المائدة 95) إلخ ويكون المراد بالأنتقام هو الحكم بالكفارة، وهو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله:”فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ” (المائدة 95) أنه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حال فعلي. وهذا شاهد على أن المراد بالعود العود ثانيا إلى فعل تعلق به الكفارة، والمراد بالأنتقام العذاب الإلهي غير الكفارة المجعولة. وعلى هذا فالآية بصدرها وذيلها تتعرض لجهات مسألة قتل الصيد، أما ما وقع منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه، وأما بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل في المرة الأولى فإن عاد فينتقم الله منه ولا كفارة عليه، وعلى هذا يدل معظم الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليه السلام في تفسير الآية. ولو لا هذا المعنى كان كالمتعين حمل الأنتقام في قوله “فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ” (المائدة 95) على ما يعم الحكم بوجوب الكفارة، وحمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي ومن عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم، أي ومن قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفارة، وهذا كما ترى معنى بعيد من اللفظ.
وعن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ثمّ لما لم يكن لأي حكم أثر رجعي يعود إلى الماضي، فيقول: “عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ” (المائدة 95). أمّا من لم يعتن بهذه التحذيرات المتكررة و لم يلتفت إلى أحكام الكفارة و كرر مخالفاته لحكم الصيد و هو محرم فإنّ اللّه سوف ينتقم منه في الوقت المناسب: “وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ” (المائدة 95). ثمّة نقاش بين المفسّرين عمّا إذا كانت كفارة صيد المحرم تتكرر بتكرره، أو لا، ظاهر الآية يدل على أنّ التكرار يستوجب انتقام اللّه، فلو استلزم تكرار الكفارة لوجب أنّ لا يكتفي بذكر الأنتقام الإلهي، و للزم ذكر تكرار الكفارة صراحة، و هذا ما جاء في الرّوايات التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم السّلام.
جاء في كتاب نظرات إسلامية في إعلان حقوق الأنسان لسماحة السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر قدس سره: من هذه المادة، وهي التي تنص على عدم جواز العقاب إلاّ بحسب القوانين الموضوعة والمذاعة قبل إرتكاب الجريمة والمعمول بها شرعاً. فإنها تعني أنه لا يجوز للقانون أن يكون ذا أثر رجعي Reiroactive، أي أنه يشمل ما قبله. وهذا هو الأسلوب الفرنسي في سن القوانين. وهذا عين ما يذهب إليه الإسلام، فإنه وإن لم يكن من المعقول صدور قوانين جديدة في الإسلام. إلا أنه يمكن أن يستدل عليه ب (أصالة البراءة) التي تعني براءة الذمة من الأمر المشكوك الوجوب أو الحرمة، وهي قاعدة تذكر في علم أصول الفقه، ويفرق هناك بينها وبين أصالة الإباحة السالفة الذكر، ومن هنا فإن الحكم الشرعي إن لم يصل إلى المكلف، بعد بذل الوسع في الفحص عنه، أو إنه لم يكن هناك حكم شرعي في الواقع، فإنه ليس على المكلف أي تكليف. وهذا يشمل ما قبل صدور القوانين الجديدة لو فرضت فإن الفرد قبلها كان بريء الذمة من التكليف. كما إنه يمكن أن يستشهد لذلك، بإسلوب نبي الإسلام صلى الله عليه وآله في تبليغ الأحكام عندما كانت تترل متتابعة، فإن نزول الأمر لم يكن يعني تلافي ما فرط في السابق من أفعال تعد بحسب القانون الجديد ذنوبا، إلا بعض الأحكام الوضعية، أي الضمان ووجوب رد المسروق أو المصوب ونحوه، بالنسبة إلى الأموال، فإنه يجب الرد بمعنى أن الحكم الجديد يخبر السارق أن ذمته أشتغلت بما سرقه من حين سرقته، وإنه من الأن يجب عليه رده. وما هذا إلا لأن هذه الأمور إنسانية يدركها الضمير الأنساني قبل أن يحكم بها الشرع الإسلامي الحنيف. كما إن في القرآن ما يدل على ذلك بوضوح، حيث إن الله عز وجل يذكر بعد تأكيده على الحكم أنه يجب أن يتبع من حين نزول الآية وليس على ما مضى عقاب، فمن ذلك أنه عز وجل قال بعد التشديد على حرمة الربا: “فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” (البقرة 275) ومن ذلك قوله عز وجل بعد تبليغه حرمة الصيد في حال الإحرام: “عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام” (المائدة 95). كما أن الكافر إذا أسلم فإنه لا يأمر بتلافي ما قد سلف منه من عصيان الأوامر الإسلامية، إلا الأحكام الوضعيةن رغم أن القانون موجود وساري المفعول على المسلمين: وذلك كما ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وآله: (إن الإسلام يجب ما قبله) أي بقطعه، فكأن الكافر يحيا حياة جديدة بعد إسلامه. ومن ذلك قوله عز وعلا: “قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف” (التوبة 7). وهذا هو الموافق للمنطق، لكي يطلع الناس على واجباتهم ويكونوا آمنين ومطمئنين ضمن حدود القانون.