ضياء ابو معارج الدراجي
لم نكن صغاراً نبكي على مطرب، ولا نصرخ من أجل صورة مغنٍ لا نعرف حتى اسمه. كنا نبكي على لعبة ورقية او حلوى بخمس فلوس، أو على فرصة للجلوس بجانب والدنا في السيارة. لم تكن طفولتنا مثالية أو معقدة، لكنها كانت صحيحة… نظيفة… واضحة الحدود. كان كل شيء في مكانه: لعبة للطفل، وحياء للبنت، ومسؤولية للولد، واحترام للكبير.
أما اليوم، فنرى جيلاً صغيراً يتعثر قبل أن يمشي. بنات بعمر العشر سنوات يصرخن ويجهشن بالبكاء على مطرب شاب في حفل صاخب داخل قرية دجلة الترفيهية، وكأنهن عاشقات خاب أملهن، أو نجمات فقدن فرصة شهرة! والمصيبة ليست في الطفل الذي لا يفرق بين الطرب والطفولة، بل في الأمهات اللواتي يصفّقن لهذا الانهيار وكأنه تطور تربوي!
تحوّلت القرية العائلية إلى ملهى بلا جدران، وقدّمت الأم ابنتها للعالم ليس كطفلة، بل كـ”أنثى صغيرة” يتم تدريبها على الرقص والانفعال قبل أن تتعلم معنى الأخلاق. ما قيمة أن تبكي فتاة لم تفهم بعد معنى الحياء، لكنها تجيد الرقص على كلمات الرغبة؟ ومن أين تتعلم الطفلة ذلك؟ من شاشة الهاتف؟ أم من يد أمٍّ ترفع الكاميرا وتقول بفخر:
“شوفوا بنتي! نفس الفنانات!”
هل حقاً هذا تطور؟
لمّا كانت البنات في بيوتنا تمسك العباءة بوقار أمام ضريح الإمام، لم يكن ذلك تقليداً شكلياً، بل احتراماً للقيم، لرجولة الأب، لأخلاق الأم. وفي موقف آخر، مرّت امرأة محتشمة تقود فتاة في عمر المراهقة، مكشوفة الذراعين والصدر والساقين، وحين حاولنا تنبيه الأم بحسن نية، جاء الرد الصادم:
“بعدها صغيرة على العباية، عمرها 16!”
وكأن العفة سجن، والستر عقوبة، والعباءة تُلبس عقاباً لا احتراماً!
أية تربية هذه التي تجعل الجسد ينضج قبل الأخلاق، وتجعل الأنثى امرأة قبل أن تكون طفلة؟
لا يكفي أن نلوم الأمهات وحدهن، فالأب الذي يترك بيته بلا ضوابط لا يختلف عن أم تفتح أبواب الانحراف وتصفّق له. الأب ليس زائراً عابراً، ولا محفظة بنكية، ولا ظل رجل غائب. دوره حماية القيم قبل حماية الإنفاق.
الأب الحقيقي:
لا يسلم أبناءه للتلفاز والهاتف ليربيهم.
لا يترك “الحرية” فوضى بلا ضوابط.
لا يستقيل من مسؤوليته بحجة التطور.
تربية بلا أب صارم بقيمه، كبيت بلا جدران… يسكنه كل عابر.
الغريب أن منظمات المجتمع المدني تصرخ ليل نهار ضد القانون الجعفري بحجة “حماية الطفولة”، وكأن القانون يريد ذبح الأطفال! بينما هذه المنظمات نفسها تسكت عن قتل الطفولة الحقيقي الذي يحصل في:
حفلات الرقص المختلطة للقاصرات.
النوادي المفتوحة باسم العائلة.
حفلات “الترفيه” التي تسرق الحياء وتعرض البنات كسلعة.
الملاهي التي ملأت بغداد والمحافظات تحت عنوان “فن وثقافة”.
كيف تصبح “حماية الطفولة” معركة ضد دين وثقافة وهوية، بينما يُتركون الأطفال يُذبحون أخلاقياً في ملاهي مفتوحة؟
كيف يكون الخطر في قانونٍ يضبط الحقوق والواجبات، بينما لا تُعد كارثةً حفلات تُحوّل البنات إلى نساء قبل رشدهن؟
أيُّ نفاق هذا؟
أهي طفولة تُحمى بالقوانين… أم طفولة تُباع بالتصفيق وتذاكر الحفل؟
الطفولة تُقتل اليوم… لا بالزواج المبكر، بل بالإنضاج المبكر للجسد، وبالتنازل المبكر عن الحياء.
حين تموت الأمومة… ويتغيب الأب… تتبنى المنظمات ضياع الجيل!
الكارثة ليست في طفلة تبكي على مطرب، بل في أم تفتخر، وأب يصمت، ومنظمة تدافع عن التفاهة على أنها حرية. يجتمع الصمت والتحريض والتمويل، فيولد جيل يفتخر بالجسد قبل العقل، وبالصوت قبل القيم.
جيل بلا حياء… وطن بلا كرامة
نحن لسنا أفضل من هذا الجيل، لكننا تربينا في بيوت تعرف أن:
الطفلة طفلة لا أنثى.
الحياء ليس عقدة، بل احترام.
الأم ليست راقصة مستقبل ابنتها.
الأب ليس ممول حفلتها.
والمنظمة التي لا تحمي القيم… لا تحمي طفلاً.
إلى كل أم تهرول خلف موضة العري قبل التربية:
ربّي ضمير ابنتك قبل أظافرها… علّميها قيمتها قبل أن تعلميها كيف تتمايل للكاميرا.
وإلى كل أب يعتقد أن التربية وظيفة الأم وحدها:
الطفولة ليست حرية جسد… بل مسؤولية رجل يحمي قبل أن يدفع.
وأخيراً…
حين تُربّي الأم جسد ابنتها قبل عقلها، ويغيب الأب عن دوره، وتتولى المنظمات تضليل المجتمع باسم الحرية، سينقلب الوطن كله ملهى بلا كرامة.
وحين ننسى أن التربية فعلُ بناء لا فعلُ تصوير، سيكبر الأطفال بملامح كبار… وداخلهم فراغ.
والأجيال القادمة لن تشهد على تطورنا، بل على تفريطنا.
ضياء ابو معارج الدراجي