د. فاضل حسن شريف
قال الله تعالى “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿التوبة 31﴾، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” ﴿التوبة 34﴾.
عن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (التوبة 31) “اتخذوا أحبارهم” (التوبة 31) أي: علماءهم “ورهبانهم” أي: عبادهم “أربابا من دون الله”. روي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، انهما قالا: أما والله ما صاموا ولا صلوا، ولكنهم أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا، فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون. وروى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عدي إطرح هذا الوثن من عنقك قال: فطرحته، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا” حتى فرغ منها، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال: فقلت بلى. قال: فتلك عبادتهم. “والمسيح ابن مريم” أي: اتخذوا المسيح إلها من دون الله. “وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا” (التوبة 31) أي: معبودا واحدا هو الله تعالى “لا إله إلا هو” أي: لا تحق العبادة إلا له، ولا يستحق العبادة سواه “سبحانه” تنزيها له “عما يشركون” اي: عن شركهم، وعما يقولونه، وعما لا يليق به.
جاء في موقع أهل القرآن عن نقد كتاب التكرار اللفظي في القرآن الكريم للكاتب رضا البطاوى: وأما أسباب التكرار فمتنوعة فالغالب هو أن التكرار فى كثير من الآيات هو تفسير بعض الآيات ببعض وذكر المؤلف بعض الآيات المتكررة بنفس اللفظ وسببها هو أن سياق الكلام اقتضاها كتدليل على شىء وأما الآيات التى اختلفت فى لفظ أو اكثر فهى تفسير لبعضها وفى هذا قال: وأقرأ هذه الآيات التالية وتأملها مليا “وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض” (النور 55) وقوله تعالى “وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرأ عظيما” (المائدة 9) وأقرأ هاتين الآيتين “وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون” (النحل 14) “وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون” (فاطر 12) إذ تحول اللفظ الأول في آية إلى مكان آخر في آية أخرى مما يزيد من الحسن ومثل هذا كثير في القرآن. كما أن التكرار يجئ بتنوع وأقرأ هذه الآيات “إنا أنزلناه في ليلة القدر” (القدر 1) “إنا أنزلناه في ليلة مباركة” (الدخان 3) “إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون” (يوسف 2) “إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون” (الزخرف 3) إنها مذاقات حين تجد هذا التكرار والتنوع”.
جاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (التوبة 31) هذا دليل آخر بأنهم لا يؤمنون باللَّه، بل بما يقول رجال دينهم وعقيدتهم. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: انهم ما صاموا ولا صلوا لهم، ولكنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم، وعبدوهم من حيث لا يشعرون. وهذا عين ما جاء في الحديث من أن عدي بن حاتم قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله: لسنا نعبدهم. فقال له النبي: أليس يحرمون ما أحل اللَّه فتحرمونه، ويحلون ما حرم فتستحلونه؟ قال عدي: بلى. قال النبي فتلك عبادتهم. وقال (فولتر): لا يعلم قسيسونا شيئا سوى اننا سريعو التصديق لما يقولون. “وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهً إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (التوبة 31) قال الرازي في تفسيره: المعنى ظاهر. ولكن مفسرا آخر أبى إلا أن يقول: أي يعبدون إلها عظيم الشأن.
وعن فسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (التوبة 31) قوله تعالى: “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم” (التوبة 31) الأحبار جمع حبر بفتح الحاء وكسرها وهو العالم وغلب استعماله في علماء اليهود والرهبان جمع راهب وهو المتلبس بلباس الخشية وغلب على المتنسكين من النصارى. واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله هو إصغاؤهم لهم وإطاعتهم من غير قيد وشرط ولا يطاع كذلك إلا الله سبحانه. وأما اتخاذهم المسيح بن مريم ربا من دون الله فهو القول بألوهيته بنحو كما هو المعروف من مذاهب النصارى، وفي إضافة المسيح إلى مريم إشارة إلى عدم كونهم محقين في هذا الاتخاذ لكونه إنسانا ابن مرأة. ولكون الاتخاذين مختلفين من حيث المعنى فصل بينهما فذكر اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله أولا، ثم عطف عليه قوله: “والمسيح بن مريم” (التوبة 31). والكلام كما يدل على اختلاف الربوبيتين كذلك لا يخلو عن دلالة على أن قولهم ببنوة عزير وبنوة المسيح على معنيين مختلفين، وهو البنوة التشريفية في عزير والبنوة بنوع من الحقيقة في المسيح عليه السلام فإن الآية أهملت ذكر اتخاذهم عزيرا ربا من دون الله، ولم يذكر مكانه إلا اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله. فهو رب عندهم بهذا المعنى إما لاستلزام التشريف بالبنوة ذلك أو لأنه من أحبارهم وقد أحسن إليهم في تجديد مذهبهم ما لا يقاس به إحسان غيره، وأما المسيح فبنوته غير هذه البنوة.
جاء في منتدى انما المؤمنون أخوة عن ظاهرة التكرار في القرآن الكريم للكاتب أحمد محمد لبن: ولنأخذ بعض النماذج الشعرية والتى استخدم فيها التكرار فاستحسن تارة واستقبح تارة أخرى. أولاً: التكرار المحمود: يقول الحارث بن عُبَاد: قربا مربط النعامة منى * لقِحَت حرب وائل عن خيال. فكرر قوله: “قربا مربط النعامة منى” فى رؤوس أبيات كثيرة عناية بالأمر، وإرادة التنبيه والتحذير، والتكرار أسلوب من أساليب التحذير. وكذلك قول الأَسْعَر: وكتيبة لبستها بكتيبة * حتى يقول نساؤهم هذا فتى. أيضاً كرَّر الشاعر الشطر الأول من البيت فى العديد من أبياته. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب: مهلا بنى عمنا مهلا موالينا * لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا. يريد: رفقاً يا بنى عمنا، رفقاً موالينا، يريد التأكيد، وقد وقع التكرار للتأكيد فى كلام العرب كثيراً. كما فى قول الشاعر: أتاك أتاك اللاحقون أتاك. وقول الآخر: كم نعمة كانت لكم * كم كم وكم كانت وكم. إلى غير ذلك مما ورد فى كلامهم مما لا تأخذه الإحاطة ولن أطيل فى سرد النماذج من الشعر العربى وفيما ذكرته الكفاية، والمتدبر لبعض دوواين الشعراء، يجد فيها تكراراً لبعض الكلمات، ولم يؤثر هذا التكرار على فصاحة كلماته، ولا على بلاغة أسلوبه، وما ذلك إلا لأن الشاعر قد وظف التكرار توظيفاً بلاغياً راقياً.
وعن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (التوبة 31) وفي الآية التالية إشارة إلى شركهم العملي في قبال الشرك الاعتقادي، أو بعبارة أخرى إشارة إلى شركهم في العبادة، إذ تقول الآية: “اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ” (التوبة 31). (الأحبار) جمع حبر، ومعناه العالم، و(الرهبان) جمع راهب وتطلق على من ترك دنياه وسكن الدير وأكبّ على العبادة. وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم، ولم يصلوا ولم يصوموا لهم، ولم يعبدوهم أبدا، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الأحكام المخالفة لحكم اللّه من قبلهم، فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى بالعبادة. وهذا المعنى وارد في رواية عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السّلام إذا قالا: (أمّا واللّه ما صاموا لهم ولا صلّوا، ولكنّهم أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا، فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون). وفي حديث آخر، أنّ عديّ بن حاتم قال: وفدت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم وكان في رقبتي صليب من الذّهب، فقال لي صلى اللّه عليه وآله وسلّم: يا عدي ألق هذا الصنم عن رقبتك، ففعلت ذلك، ثمّ دنوت منه فسمعته يتلو الآية “اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً” (التوبة 31) فلمّا أتم الآية قلت له: نحن لا نتّخذ أئمتنا أربابا أبدا، فقال: (ألم يحرموا حلال اللّه ويحلّوا حرامه فتتبعوهم؟ فقلت: بلى، فقال: فهذه عبادتهم). والدليل على هذا الموضوع واضح، لأنّ التقنين خاص باللّه، وليس لأحد سواه أن يحل أو يحرم للناس، أو يجعل قانونا، والشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يفعله هو اكتشاف قوانين اللّه وتطبيقها على مصاديقها. فبناء على ذلك لو أقدم أحد على وضع قانون يخالف قانون اللّه، وقبله إنسان آخر دون قيد أو اعتراض او استفسار فقد عبد غير اللّه، وهذا بنفسه نوع من أنواع الشرك العملي، وبتعبير آخر: هو عبادة غير اللّه. ويظهر من القرائن أنّ اليهود والنصارى يرون مثل هذا الإختيار لزعمائهم، بحيث لهم أن يغيّروا ما يرونه صالحا بحسب نظرهم، وما يزال بعض المسيحيين يطلب العفو من القسيس فيقول له القسّ، عفوت عنك! وكان- منذ زمن- موضوع صكوك الغفران رائجا. وهناك لطيفة أخرى ينبغي الالتفات إليها، وهي أنّه لما كانت عبادة المسيحيين لرهبانهم تختلف عن عبادة اليهود لأحبارهم، فالمسيحيون يرون المسيح ابن اللّه واقعا واليهود يطيعون أحبارهم دون قيد أو شرط، لذا فإنّ الآية أشارت إلى عبادة كل منهما، فقالت: “اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ” (التوبة 31). ثمّ فصلت المسيح على حدة فقالت: “والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ”. وهذا التعبير يدلّ على منتهى الدقة في القرآن.