عائلة بولندية ضد دولة السويد: التحقيق في عملية نقل غامضة نفّذها السوسيال السويدي

إيهاب مقبل

في الوقت الذي تُقدَّم فيه السويد عالميًا كواحدة من أكثر الدول تقدمًا في قوانين حماية الطفل، تتصاعد في المقابل موجة واسعة من الانتقادات الموجهة إلى نظام الخدمات الاجتماعية السويدي “دائرة السوسيال”، خصوصًا فيما يتعلق بسحب الأطفال من عائلات ذات خلفيات مهاجرة أو متعددة الثقافات.

قضية العائلة البولندية، التي وصلت الآن إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ليست حدثًا عابرًا، بل أصبحت رمزًا لأزمة ثقة متفاقمة بين الأسر والنظام الاجتماعي السويدي.

القضية تمس أربعة فتيات، يتراوح أعمارهن بين 6 و14 عامًا، وجميعهن يحملن الجنسية المزدوجة، تم نقلهن من بولندا إلى السويد في يوليو تموز 2024 في ظروف اعتبرتها الأسرة “تعسفية” و”غير شفافة”، وسط صمت رسمي سويدي واحتجاجات محدودة لكن متواصلة في بولندا.

هذا التحقيق يتناول القضية بمنظار أوسع: الأبعاد القانونية، النقد الحقوقي، إشكاليات سياسات السوسيال، العلاقة بين حماية الطفل وسيادة الأسرة، والسياق السياسي الأوروبي الذي يزداد حساسية تجاه هذه الملفات.

أولاً: جذور القضية.. كيف بدأت وما الذي حدث في صيف 2024؟
بحسب المعلومات المنشورة من المنظمات البولندية والبيانات القانونية التي قدمها معهد أوردو يوريس Ordo Iuris: كانت العائلة تعيش في بولندا ولم تُسجّل بحقها أي مخالفات أو تقارير إساءة. مع ذلك، استندت السويد إلى تقييم اجتماعي سابق أجري في فترة قصيرة أقامت فيها إحدى الفتيات في مدرسة سويدية، حيث ذكرت المدرسة “بعض المخاوف” المتعلقة بالتكيّف. هذه الملاحظات تطورت لاحقًا، دون تحقيق مشترك بين الدولتين، إلى قرار بنقل الفتيات الأربع من بولندا إلى السويد.

القرار تضمن نقاطًا مثيرة للجدل:

1. نقل الأطفال قسريًا إلى دولة أخرى رغم وجود الأسرة في بولندا.

2. عدم تقديم أسباب واضحة أو أدلة على تعرض الفتيات لخطر مباشر.

3. منع التواصل الكامل بين الوالدين والأطفال لفترات طويلة.

4. توزيع الفتيات على أسر سويدية مختلفة رغم الروابط الأخوية القوية بينهن.

في السويد، يُنظر إلى مثل هذه القرارات كجزء من “إجراءات وقائية”، لكن بالنسبة لعائلات مثل عائلة روبرت كلامان “Robert Klaman”، بدا الأمر وكأنه انتزاع لحياة بناته الأربعة من حضنه دون مبرر.

ثانياً: نقد منهجي للسوسيال.. ثغرات تتكرر في قضايا متعددة
قضية العائلة البولندية ليست استثناء، بل تتكرر الأنماط نفسها في عشرات القضايا التي تتعلق بأسر مهاجرة، ما يثير أسئلة حادة حول فلسفة السوسيال وحدود سلطاته.

1. الإشكالية الأولى: اتساع تعريف “الخطر”
يمنح القانون السويدي لدائرة السوسيال صلاحيات واسعة جدًا لتحديد ما إذا كان الطفل معرضًا للخطر. لكن مفهوم الخطر ليس محصورًا في الإساءة أو الإهمال الجسيم، بل يشمل مثلا “الخوف من تطور سلبي”، و”عدم وجود علاقة انفتاح بين الطفل والوالدين”، و”أساليب تربية غير متوافقة مع النموذج السويدي”. هذا الغموض يسمح، بحسب منتقدين، بتحويل الاختلاف الثقافي إلى اتهام.

2. الإشكالية الثانية: غياب الرقابة القضائية الفورية
على خلاف كثير من الدول الأوروبية، بمقدور دائرة السوسيال السويدي اتخاذ قرار عاجل بسحب الطفل من والديه دون أمر قضائي مسبق، إذ أن القضاء يأتي لاحقًا وغالبًا بعد أشهر. تقول منظمات حقوقية إن هذا التسلسل يجعل الرقابة القضائية “شكلية”، إذ يكون الطفل قد تم نقله بالفعل وأصبحت العودة شبه مستحيلة.

3. الإشكالية الثالثة: منع أو تقليص الاتصال الأسري
في العديد من القضايا يتم تقليل الزيارات إلى ساعة واحدة كل شهر، أو حرمان الوالدين من معرفة موقع الطفل، أو وضع شروط صارمة على المكالمات. السويد تبرر بأن الهدف “حماية الطفل من الضغط”، لكن الأسر ترى في ذلك محاولة لقطع الروابط الأسرية كي يعتاد الطفل العيش خارج منزله.

4. الإشكالية الرابعة: تجاهل العوامل الثقافية والدينية
يقول معهد أوردو يوريس، ومنظمات عربية وصومالية وسورية وعراقية وغيرها داخل السويد، إن السوسيال لا يملك خبراء متخصصين في الثقافة أو الدين عند تقييم الأسر المهاجرة. يفسّر سلوكيات عادية مثل الانضباط أو الواجبات المنزلية على أنها “تهديد” أو “ضغط نفسي”. هذا أدى بحسب باحثين إلى سوء فهم منهجي للبيئات المهاجرة.

ثالثاً: قضية العائلة البولندية… مرآة لخلل أعمق
1. نقل الأطفال دوليًا سابقة خطيرة: وفق خبراء القانون الدولي، يجب أن يكون نقل الأطفال بين الدول مقيدًا للغاية، وغالبًا مشروطًا بوجود خطر فوري، أو مذكرة قضائية مشتركة بين الدولتين، أو تعاون قانوني وفق اتفاقية لاهاي. لكن في هذه القضية، تم النقل دون تنسيق مع القضاء البولندي، ودون مشاركة مؤسسات حماية الطفل في بولندا، ودون التحقيق في منزل العائلة داخل الدولة التي تقيم فيها الأسرة. هذا يفتح الباب لنقاش أكبر: هل يحق للسوسيال السويدي اتخاذ قرارات تتجاوز الحدود الجغرافية والدستورية للدول الأخرى؟ وهل من حقه انتهاك سيادة وإستقلالية النظام القضائي للبلدان الأخرى؟

2. فصل الأخوات عن بعضهن: السويد تعتبر أن فصل الأشقاء “قرار مهني” يهدف لتلبية احتياجات كل طفل بشكل مستقل، لكن منظمات حقوق الطفل الدولية ترى ذلك غالبًا إجراءً قاسيًا يؤدي إلى اضطراب عاطفي، وفقدان الدعم النفسي بين الإخوة، وتطور مشكلات تعلق واضطرابات ثقة. في حالة الفتيات الأربع، تم توزيعهن بين أسر مختلفة، وهو ما اعتبرته الأسرة “أشد قسوة من قرار الحجز نفسه”.

3. حرمان الوالدين من المعلومات: أفاد الوالدين بأنهم لم يعرفوا مكان الفتيات لمدة أشهر، ولم يتمكنوا من معرفة المدرسة التي انتقلت إليها كل طفلة، ولم يُسمح لهم إلا بمكالمات قصيرة ومحكومة بشروط. هذا الوضع، وفق خبراء حقوق الإنسان، يمثل “اختفاءً عائليًا مرخصًا” وليس إجراءً وقائيًا.

رابعاً: البعد السياسي.. السويد وبولندا في تناقض أيديولوجي
هذه القضية لا تجري في فراغ، بل هناك خلفية سياسية واضحة: بولندا تتبنى سياسة محافظة تحمي مفهوم الأسرة التقليدية، بينما السويد تتبنى نظامًا اجتماعيًا موسّعًا يعطي مؤسسات الدولة دورًا كبيرًا في التحكم بالطفل. هذا التباين يجعل كل طرف يرى الآخر من منظور مختلف:

بالنسبة للسويد: “الانضباط البولندي قد يكون ضارًا نفسيًا”.

بالنسبة لبولندا: “النظام السويدي يتدخل في حياة الأسرة بلا حدود”.

قضية روبرت كلامان أصبحت بذلك أحد مظاهر التنازع الأيديولوجي الأوروبي حول معنى الأسرة ودور الدولة.

خامسًا: الفروق الثقافية بين السويديين والبولنديين
تكشف القضية الحالية عن معضلة أعمق تتمثل في التقاء نظامين اجتماعيين مختلفين:

بولندا ذات الطابع الكاثوليكي المحافظ،

السويد ذات الخلفية العلمانية والبروتستانتية والميل إلى تدخل اجتماعي أوسع في حياة الأسر.

هذا التباين يجعل تفسير “الأساليب التربوية المقبولة” مختلفًا من بلد لآخر، ويطرح السؤال:
هل يستطيع نظام السوسيال السويدي استيعاب تعدد النماذج الأسرية والثقافية؟ أم أنه يميل، كما يزعم منتقدوه، إلى تطبيق معايير سويدية خالصة على عائلات غير سويدية حتى لو كانت الفاتورة “مصادرة حق الأسر في تربية أطفالها”؟

سادسًا: نحو المحكمة الأوروبية.. ماذا ينتظر السويد؟
الأسرة لجأت أولاً إلى السلطات البولندية التي انتقلت بالفعل إلى منزل العائلة في بولندا لإجراء تقييم مستقل، وأفادت، وفق ما نشرته المنظمات البولندية، بأنها لم تجد أسبابًا قانونية تبرر فصل الأطفال.

لكن وبسبب حمل الفتيات جنسية مزدوجة “بولندية–سويدية”، أعلنت وزارة العدل البولندية أن قدرتها على الاعتراض محدودة، ما دفع الأسرة إلى التوجه لمعهد أوردو يوريس.

المعهد البولندي القانوني لم يكتفِ بدراسة الملف، بل قرر اتخاذ خطوة غير مسبوقة: تقديم شكوى رسمية ضد السويد أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في السابع من نوفمبر تشرين الثاني 2025، بتهمة “التدخل الجائر في الحياة الأسرية، وانتهاك المادة الثامنة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وتجاوز حدود حماية الطفل، وإضعاف الروابط الأسرية بشكل غير مبرر، واستخدام القوة الإدارية بدل المسار القضائي، ونقل أطفال دوليًا دون مسوّغ قانوني”.

إذا قُبلت الشكوى وصدرت إدانة: قد تُجبر السويد على إصلاح قوانين حماية الطفل، وربما إعادة النظر في الحدود التي يُسمح فيها للسوسيال بالتدخل في الحياة الأسرية، وقد تتوسع المراجعة لتشمل مئات القضايا المشابهة، وقد يصبح الملف سابقة قانونية تاريخية على مستوى أوروبا.

خاتمة موسّعة: هل نحتاج لإصلاح جذري؟
قضية العائلة البولندية ليست مجرد نزاع عابر، بل هي مؤشر على فجوة ثقة كبيرة بين الأسر والنظام السويدي، وفجوة ثقافية بين المجتمعات المهاجرة والمؤسسات الحكومية، وفجوة قانونية بين مفهوم حماية الطفل وحدود سلطة الدولة.

يحتاج النظام السويدي، وفق معظم الخبراء المنتقدين، إلى:

1. تعريف أوضح وأكثر دقة لمفهوم الخطر على الطفل.

2. تقليص صلاحيات سحب الأطفال والنقل السريع والقرارات الطارئة.

3. إلزام السوسيال بالعمل المشترك مع قضاء الدول الأخرى في الحالات العابرة للحدود.

4. زيادة الشفافية وتمكين الوالدين من حقوق التواصل.

5. وضع خبراء في الثقافة والدين لتجنب سوء الفهم.

6. تقييم مستقل من جهة خارجية لسلوكيات السوسيال في القضايا المشابهة.

حتى صدور حكم المحكمة الأوروبية، ستبقى قضية الفتيات الأربع علامة فارقة في الجدل الأوروبي حول السوسيال، وستظل مثالًا على صراع معقد بين دولة قوية مدعومة بالبلطجة الأمريكية وأسرة ضعيفة ترى أن طفولتها اختُطفت باسم القانون.

ويبقى السؤال المفتوح: هل ينجح النظام السويدي في استعادة الثقة، أم أن مزيدًا من هذه القضايا سيعمّق الشرخ بين الدولة والأسر؟

المراجع

Ordo Iuris Files Complaint with the ECHR Against Sweden Regarding the Polish Klaman Family

Ordo Iuris Institute intervenes in case of Polish family whose four children were taken away by Swedish social welfare

Polish Family’s Struggle Continues as Klaman Daughters Remain in Swedish Foster Care

Poland’s Ministry of Justice sees no “flagrant violation of the EU’s legal order” in the Klaman family’s case

Poland’s Foreign Affairs Minister intervenes in case of four Polish girls taken away by Swedish social welfare

https://x.com/OrdoIuris_Int/status/1950938582937383275

https://brusselssignal.eu/2025/08/family-separated-by-polish-government-strict-application-of-european-law

انتهى