ما تبقّى من أحلامنا

رياض الفرطوسي

هناك لحظة لا يخطئها القلب:

حين تشعر بأن العالم لم يعد كما كان، وأنك أنت أيضاً لم تعد كما كنت.

تستيقظ ذات صباح خفيف الخطى، كأن الليل أعاد تشكيلك، وتقول في سرك:

حان الوقت أن أرى حياتي بعين مختلفة.

منذ زمن ونحن نعيش على حافة الأشياء؛ نصفُ داخل الطريق ونصفٌ خارجَه.

نحمل ذكرياتٍ تُلَمِّع بعضها الأيام وتخدش بعضها الأخرى، لكنّها رغم ذلك تبقى جزءاً منّا… لا يمكن نكرانه، ولا يمكن أيضاً السماح لها بأن تقودنا كأطفالٍ خائفين في شارع مظلم.

ولأن الإنسان لا يستطيع أن يحمي قلبه إلى الأبد، ولا أن يمنع نفسه من الحلم، يبقى السؤال:

ماذا نفعل بكل ما تبقّى فينا؟ بكل ما لم يتحقق؟ بكل ما تأجّل؟

كيف نصلح هذا الفراغ الذي تركته السنوات في صدورنا؟

أحياناً يبدو لي أننا لم نُخلق لنعثر على الإجابات، بل لنعثر على الطريق.

طريقٌ قد يبدأ عند باب بيتٍ صغير، أو عند نافذة تُطلّ على مساء هادئ، أو عند صفحة طُويت من كتابٍ قديم.

والطريق لا يحتاج أكثر من قلبٍ يسمح للريح أن تحركه قليلًا، حتى يفهم أن الحركة خلاص، وأن الثبات لا يليق بمن يريد النجاة.

خذ لحظة الآن…

تخيّل أنك تقف أمام البحر.

لا شيء يعلو صوته، ولا شيء يستطيع مجاراته حين يقرر قول الحقيقة.

وللبحر عادةٌ غريبة: كلما نظرت إليه أكثر، رأيت نفسك فيه أوضح.

تتذكر أحلامك التي خبأتها في جيوبك خوفاً من السخرية أو الخذلان، تتذكر وعودك القديمة لنفسك، تتذكر من أحببت ولم ينصفك، ومن أحببتكَ ولم تقدر ذلك إلا متأخراً.

ومع كل موجة، تشعر بأنك تُغسل من الداخل، كأن الماء يدخل إلى أماكن لم يقترب منها أحد.

فتقول في همسك الهادئ:

ما زال في الروح متسع… وما زالت الخطوة ممكنة.

نحن لا نهرب من المدن، ولا من تواريخها، ولا من جراحها.

لكننا نهرب من الضجيج الذي يبتلع أصواتنا، من التفاصيل الصغيرة التي تحاول أن تطفئ ذلك الضوء الخافت في صدورنا.

أحياناً نحتاج أن نبتعد قليلًا لنسمع أنفسنا جيداً، لنفهم ما الذي سقط منا على الطريق، وما الذي يجب أن نحمله معنا للغد.

وكلما تقدّم العمر خطوة، تصبح البساطة نعمة.

حفنة صدق.

قلبٌ يعرف أن يطمئن دون أن يشعر بالذنب.

مكانٌ صغير نشعر فيه أننا مرئيّون، لا مجرّد ظلّ يمر بين الآخرين.

وتتعلم أن تختار الأشخاص الذين يضيفون إلى روحك شيئاً يشبه الماء، لا الذين يصنعون في داخلك صدعاً جديداً.

تتعلم أن تحب دون خوف، وأن تترك دون مرارة، وأن تمضي دون أن تغيّر رأيك كل بضع خطوات.

في النهاية…

كل ما نملكه حقاً ليس الماضي، ولا ما نعتقد أن الزمن سرقه منا.

كل ما نملكه هو ما تبقّى من أحلامنا، وما نستطيع أن نصنعه منها الآن، في هذه اللحظة تحديداً.

الأحلام التي لم يلوثها أحد.

الأحلام التي اختبأت في داخلنا كجذوة تنتظر نفساً خفيفاً لتشتعل من جديد.

أمضِ…

فالعالم لا ينتظر، لكن الطرق دائماً تفتح أبوابها للذين يتحلون بالشجاعة الكافية ليخطوا أول خطوة.

أمضِ، واترك قلبك يجرّك ولو قليلًا نحو ما يليق بروحك.

أمضِ، فالذين يستحقونك سيجدون طريقهم إليك، مهما طال الغياب.

وأنت… لن تضيع ما دمت ما زلت تحمل شيئاً صغيراً يشبه الأمل في راحة يدك.