خالد الغريباوي
في لحظة سياسية حساسة، يقف العراق اليوم أمام منعطف استراتيجي غير تقليدي، يتجاوز حدود تشكيل حكومة جديدة إلى حدود إعادة تعريف موقع الدولة العراقية في معادلة الإقليم وتوجهات الولايات المتحدة، فتصاعد أزمة حقل غاز “كورمور” وما رافقها من تحركات مدروسة للولايات المتحدة، كشف أن العراق لم يعد ساحة للتجاذبات بل أصبح مركزاً للصراع على الطاقة والقرار السياسي، وهذا التوتر لم يأتِ بمعزل عن التطورات الأخيرة، بل جاء متزامناً مع تصريح مبعوث إدارة ترامب مارك سافايا، الذي قال بصراحة ووضوح: ( لا مكان للميليشيات في العراق ) ، وهي عبارة تحمل أكثر من معنى، وتكشف عن تحول عميق في المقاربة الأميركية تجاه العراق؛ من سياسة الاحتواء المرن إلى سياسة الضغط الصريح لإعادة ضبط السلطة ومنع احتكارها من قبل قوى السلاح الموازي.
من هنا يمكن القول إن واشنطن لم تعد تنظر إلى العراق فقط من زاوية الأمن الإقليمي أو مواجهة النفوذ الإيراني، بل من زاوية أوسع ترتبط بحماية موارد الطاقة ومستقبل الغاز الشرق أوسطي، وتحديداً عندما يصبح الغاز الكوردي جزءاً من معادلة الأمن الأوروبي بعد الحرب الروسية الأوكرانية، لذلك فإن أي محاولة لفرض السيطرة المسلحة على منشآت الطاقة في الشمال أو الوسط ستكون موضع مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وربما مع قوى إقليمية ودولية أخرى. وأكثر من ذلك، فإن واشنطن ترى أن استمرار الفصائل في السيطرة على القرار السياسي داخل بغداد، وخاصة بعد دخول أكثر من مئة نائب ينتمون إلى هذه التشكيلات إلى البرلمان، سيحوّل العراق من دولة إلى ساحة، ومن حكومة إلى واجهة، وهو ما لن تسمح به المرحلة المقبلة.
هذا الواقع ينعكس مباشرة على عملية تشكيل الحكومة، التي لم تعد مجرد مفاوضات حزبية على الوزارات والمناصب، بل أصبحت معركة هندسة توازنات داخلية وخارجية. فالقوى السياسية المدعومة بالسلاح قد تمتلك عدداً كبيراً من المقاعد، لكنها وفق القراءة الأميركية لن تمتلك القدرة على تشكيل حكومة مستقرة، ولن يُسمح لها بالسيطرة على الوزارات السيادية أو على ملفات الطاقة والمال والأمن. ولهذا بدأت واشنطن، ومعها قوى عربية وإقليمية، بالحديث عن ضرورة وجود شخصية قادرة على “تحييد السلاح السياسي، وإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والقرار”، وهو ما يضع السيد محمد شياع السوداني في مقدمة الخيارات المحتملة، باعتباره يمتلك ميزة نادرة: ليس في جيب محور، ولا في صدام مع محور آخر.
السوداني اليوم يُقدَّم كشخصية دولة لا شخصية صراع، قادر على التهدئة دون تقديم تنازلات، وعلى إدارة الدولة لا التداول على النفوذ، وهذا ما يجعله مقبولاً من واشنطن، وغير صادم لطهران، وفي الوقت ذاته منفتحاً على دول الخليج، ويحظى بدعم شريحة واسعة داخل البرلمان ، في المقابل يحاول الإطار التنسيقي أن يناور بطرح اسم مصطفى الكاظمي، باعتباره مقبولاً أميركياً، لكنه لا يمتلك بعد اليوم الغطاء الداخلي الكافي، ولا يمكنه إدارة مرحلة بهذا الحجم من التعقيد، بعد أن أصبح عنواناً للاستقطاب لا عنواناً للحل.
إن تشكيل الحكومة بات مرتبطاً بسيناريوهين رئيسيين: فإما حكومة دولة يقودها شخص متوازن قادر على امتصاص الضغط الأميركي وتهدئة المحور الإيراني دون الدخول في صدام، وإما حكومة مواجهة ستعيد العراق إلى مربع التعطيل وربما إلى مربع العقوبات والتدويل. لذلك، كل المؤشرات لا تتجه نحو شخصية الصدام، بل نحو شخصية التهدئة الاستراتيجية، التي يمكنها أن تقود العراق في هذه المرحلة المضغوطة سياسياً والمفتوحة اقتصادياً، وهذا ما يفسر تصاعد حظوظ السوداني أكثر من أي شخصية أخرى.
المشهد الأميركي الآن يتجه نحو العمل بمبدأ “استعادة الدولة لا إسقاط الأطراف”، وهذا يعني أن واشنطن لا تسعى لإخراج الفصائل من المشهد السياسي، لكنها تريد إنهاء نفوذها على مفاصل الدولة، وبشكل خاص في ملفي الطاقة والأمن. ولهذا فإن الصراع لن يكون عسكرياً، بل سياسياً ومالياً واقتصادياً، عبر منع التمويل، وإرباك القرار، وتدويل ملف الطاقة، ودعم حكومة تملك القدرة على ضبط هذا التوازن.
العراق يقف اليوم أمام سؤال استراتيجي: هل نحن ذاهبون نحو حكومة تُدار بالسلاح السياسي والمال الخارجي؟ أم نحو دولة تُبنى بالقرار الوطني والاستقرار الاقتصادي؟ وما يبدو واضحاً هو أن المرحلة القادمة لن تكون معركة تشكيل حكومة، بل معركة تثبيت مفهوم الدولة. وفي هذه المعركة، لن ينتصر الأقوى عدداً، بل الأقدر إدارة، والأعمق رؤية، والأكثر قدرة على طمأنة الداخل والخارج معاً.
إننا أمام لحظة فارقة، لن تحدد من يحكم العراق فقط، بل ستحدد أي عراق سنحكمه: عراق الدولة، أم عراق الصراع المفتوح؟