بقلم : خالد الغريباوي
لم تعد معركة العراق اليوم معركة حكومة أو رئيس وزراء، بل معركة على وظيفة الدولة العراقية نفسها: هل تبقى دولة نفوذ تخضع لتوازنات السلاح، أم تتحوّل إلى دولة توازن واستثمار واستقرار؟ واشنطن وطهران تدركان أن رئيس الوزراء القادم لن يحدّد شكل الحكومة فقط، بل شكل العراق القادم في معادلة الشرق الأوسط.
واشنطن الان بعد عقدين من التجربة العراقية المتذبذبة لم تعد تريد عراقًا تابعًا، ولا قاعدة عسكرية إضافية ولا حتى حكومة مقبولة شكليًّا، إنها تريد كيانًا قادرًا على إنتاج قرار سيادي واحد يضبط السلاح، ويحمي الاستثمارات، ويعيد العراق إلى الجغرافيا الاقتصادية الإقليمية والدولية، هذا التحول يختصره مسؤول أميركي سابق بقوله: “نريد دولة في العراق… لا موقعًا في العراق…
ماذا تريد واشنطن؟
أولاً: عراق يمكن الوثوق به اقتصاديًا قبل أن يُوثق به سياسيًا
واشنطن تعتقد أن الطريق إلى الاستقرار السياسي يمر عبر إعادة هندسة الاقتصاد العراقي، وهذا يبدأ بتحويل قطاع الطاقة إلى منصة سيادة، وليس مصدر نفوذ موازٍ، لذلك تضغط لخلق بيئة آمنة لعودة الشركات الغربية الكبرى، لا للاستثمار فقط، بل لبناء نموذج دولة قادرة على حماية المصالح، والتفاوض بندّية، وكبح تسرب المال العراقي نحو إيران.
ثانياً: عراق لا يُطلق صواريخه نيابة عن الآخرين ،
الولايات المتحدة لا تريد عراقًا يخوض حروبًا بالوكالة، ولا يسمح بتحوّل أراضيه إلى صندوق رسائل بين القوى الإقليمية. إنها تريد قرار حرب وسلام موحدًا، يمنع الصواريخ من أن تُطلَق من العراق قبل أن تُتخذ في بغداد.
ثالثاً: دولة لها منافذ سيادية وحدود حقيقية
الاقتصاد العراقي في النظرة الأميركية هو الرئة الاقتصادية لإيران ، وواشنطن ترى أن ضبط المنافذ والمصارف والتدفقات المالية ليس مسألة اقتصادية فحسب، بل مسألة سيادة جيوسياسية.
رابعاً: دولة تستطيع الجلوس مع الجميع دون أن تكون أداة لأحد
واشنطن لا تريد عزل العراق عن إيران، ولا دفعه نحو محور معادٍ. بل تريد عراقًا قادرًا على الحوار مع طهران من موقع شريك، لا وسيط ولا تابع ،عراقًا لا يتماهى مع المحاور، بل يصنع موقعه الخاص.
باختصار:
واشنطن لا تريد رئيس وزراء معتدلاً… بل رئيس وزراء قادرًا.
ولا تريد تغيير حكومة… بل تغيير وظيفة الدولة.
إما ايران تدرك أن واشنطن لم تعد تسعى إلى إخراجها من العراق، بل إلى تحجيم تأثيرها وتحويل نفوذها من السلاح والاقتصاد الرمادي، إلى علاقة براغماتية محكومة بقواعد دولة المؤسسات.
ما يقلق طهران ليس وجود أميركا في العراق، بل وجود دولة قوية في العراق.
فالدولة القوية تعني:
سلاح واحد وحدود مضبوطة واقتصاد غير مسرّب وقرار حرب وسلام مستقل،
وهذا بالضبط ما يهدد النفوذ الإيراني أكثر من أي خطاب سياسي أو تفاهم أميركي خليجي.
لذلك ستعمل إيران وفق المؤشرات على تعديل نفوذها في العراق، لا التخلي عنه. ستقبل بدور سياسي، ولكنها ستقاوم أي محاولة لضبط السلاح خارج إطارها، قد تتجه إلى تكتيك “إدارة النفوذ” بدلاً من “احتكار النفوذ”، وتذهب إلى مقاربة مع واشنطن تقوم على تقاسم المساحة، لا تقاسم القرار.
إيران تعرف أن العراق ليس خط دفاع سياسي فقط، بل خط دفاع اقتصادي وأمني واستراتيجي. لذلك، فهي لا تريد فقدان نفوذها، لكنها قد تقبل بتحويله من نفوذ ميداني إلى نفوذ تفاوضي.
العراق اليوم أمام فرصة لا تعوض:
أن يتحول من دولة نفوذ إلى دولة توازن.
من دولة صراع إلى دولة مصلحة.
من اقتصاد رمادي إلى اقتصاد شراكة.
والقرار، هذه المرة، لن يُصنع في الغرف المغلقة ولا في العواصم الإقليمية.
بل سيُصنع في بغداد، عندما تدرك النخب العراقية أن أسوأ ما يمكن أن تفعله هو حماية نفوذ مؤقت على حساب دولة دائمة.