مسارات الذاكرة: وجوه الماضي وأقنعة الحاضر

رياض الفرطوسي

اليوم، على شاشات الفضائيات ومواقع التواصل، نرى وجوهاً تعيد الظهور بعد أن اختفت سنوات طويلة في ظلال الماضي، أشخاص كتبوا التقارير، تعاونوا مع النظام القمعي الصدامي ، وشاركوا في صنع مأساة الشعب. بعضهم صار مقدّماً للبرامج، وآخرون حصلوا على مناصب في المؤسسات الثقافية، وبعضهم وصل إلى البرلمان. نفس الوجوه، لكن بأقنعة جديدة، تتحدث عن الثقافة وحقوق المرأة وكأن الخيانات الماضية لم تكن سوى مرحلة مؤقتة على طريق الظهور والربح.

هذا التكرار في التاريخ ليس جديداً . أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية واجهت تحدياً مشابهاً ، حيث تم مطاردة العملاء والمتعاونين مع النازية. في ألمانيا، تعقبت السلطات النازيين الفارين، سواء إلى الأرجنتين أو البرازيل أو مصر، وأخذت كل وسيلة لضمان ألا يفلتوا من العدالة. في النرويج، عاش الروائي كنوت همسون تجربة معقدة؛ رغم موهبته الأدبية وحمله لجائزة نوبل، وُضع تحت المحاكمة لوقوفه بجانب الاحتلال النازي، واضطر للدفاع عن وعيه وإدراكه، وحين قصد همسون هتلر ساعياً إلى تخليص بعض المعتقلين النرويجيين، اكتشف أن الفوهرر لا يصغي، كأن كلماته تتساقط عند قدمي رجل لا يرى أبعد من ظله. كان همسون يرى نفسه أكبر قيمة من هتلر، ومع ذلك لم يلقِ الأخير إليه بالاً.

أما في إيطاليا، فقد كان الشاعر الأمريكي عزرا باوند مثالًا آخر: موهبة فذة في الشعر والحداثة الأدبية، لكنها لم تحمه من السجن والإدانة بسبب دعمه للفاشية. قضى سنوات في مستشفى للأمراض العقلية بعد انهيار عصبي، ليعود بعدها إلى إيطاليا ويُذكر اسمه كتحذير تاريخي: أن الموهبة لا تقي من وصمة التاريخ.

هذه الأمثلة الأوروبية حملت درساً واضحاً : لا يسقط أثر الخيانة أو التعاون مع الظلم، والشعوب التي تحب نفسها تحفظ الذاكرة، وتخلق تقاليد رادعة تمنع تكرار الانحراف. فرنسا، على سبيل المثال، قامت بحلق رؤوس النساء المتعاونات بعد التحرير، وأصدر ألبير كامو كتابه “الكتاب الأسود” للتوثيق، كي لا تتحول الخيانة إلى وجهة نظر أو نقاش عابر.

لكن واقعنا اليوم، في العراق، مختلف ومقلق. نفس الذين تعاونوا مع النظام المقبور، والذين كتبوا التقارير وساهموا في القمع، أعيد تدويرهم، وقدموا من جديد كوجوه مؤثرة في الإعلام والثقافة والسياسة. بعضهم يتحدث عن حقوق المرأة، وبعضهم يشارك في أمسيات ثقافية، وكأن التاريخ لم يسجلهم أبداً . بينما أصحاب الفكر المستنير والمفكرون الوطنيون يجدون أنفسهم مهمشين، وكأن الزمن أصبح زمن الأقنعة والتمثيل، لا زمن العقل والوفاء للوطن.

أولئك الذين اختاروا الانبطاح والوشاية، وتحوّلوا أدواتً في يد النظام المقبور، صاروا اليوم مكرمين، رواتبهم مجزية، وأدوارهم مرموقة، بينما الذين قاوموا الظلم والتسلط ظلوا في الظل، غائبين عن منصات القرار والرأي العام. ومع ذلك، تظل الذاكرة حاضرة: من يحاول إعادة تدوير الماضي المشبوه سيظل ظلّه يطارده، مهما حاول إخفاء وجهه أو ارتداء قناع جديد.

في هذا التداخل بين الماضي والحاضر، بين وجوه الأمس وأقنعة اليوم، يبرز درس واحد واضح: الذاكرة الوطنية لا تُشترى، ولا تُلغى، ولا تُسقط بفعل الزمن، لأنها المرآة التي تعكس حقيقة الأجيال، وتذكّرنا بأن القيم لا تموت، وأن الوطن يستحق أكثر من الأقنعة العابرة.